مقالات

القمع متجذّر… وبأشكال عدّة


ظاهراً تتمتّع الصحافة في لبنان بحرية، أمّا باطناً فأشكال القمع كثيرة ومتجذّرة تحاصر كلّ من يحاول التفلّت منها، وقد تصل حدّ القتل إن دعت الحاجة. فحتّى الآن تفرض التوازنات السياسية القائمة في البلاد حدّاً من الحرية مهدّداً دوماً بالتراجع.

صحيح أن لا قبضة بوليسية تقمع بالشّكل الذّي نجده في بلدان أخرى، رغم لعب الأجهزة الأمنية دوراً قمعياً، لكن ما يعوّض للأحزاب الحاكمة عن ذلك أنّها رسّخت بنى اجتماعية تقمع بأشكال متنوعة: من العائلة إلى المدرسة والجامعة وصولاً لسوق العمل، لتخرّج أفراداً يمارسون الرقابة الذاتية. هو قمع أشدّ وأفعل يحاصر الصحافيين كما بقية المجتمع، قمع تتنصّل الأحزاب من مسؤوليته عندما يقع. فتحريض هذه المؤسسات أشدّ من الاستدعاء للتحقيق الذي قد يشكّل أهون أشكال القمع.

منذ انتهاء الحرب اللبنانية سعت الأحزاب للهيمنة على النّقاش العام ونجحت. هيمنت على وسائل الإعلام، وقمعت من تمرّد منها زمن الوصاية السورية. وتعتمد السلطة منذ انتهاء الحرب أسلوباً آخر يضمن لها التحكم بالصحافيين وخلق مساحات لنشر دعايتها في مؤسسات مختلفة، إذ تبتزّهم بـ»المعلومة». ففي حين تسيطر الأحزاب نفسها التي تتخذ القرارات المصيرية وتصنع الأحداث على المؤسسات السياسية والأمنية منذ عقود تصبح وحدها مصدر المعلومة، وعلى من يريد الحصول على خبر أن يثبت طاعة ما. ولا تُعطى المعلومة من دون مقابل، والمقابل غالباً ما يكون نشرها بالشكل الذي يفيد الجهة المانحة لها تحت طائلة الحرمان من غيرها. هكذا تستخدم المعلومة لتعويم صحافيين في مقابل إقصاء آخرين وتهميشهم ورفض التعاون معهم. كذلك تُسرب الأجهزة الأمنية، ومن خلفها سياسيون، «تحقيقاتها» إلى صحافي دون سواه في مسائل أمنية خطيرة تمسّ كلّ اللبنانيين. فتوظف هذه المعلومات لصالح جهة وتضيع الحقيقة، بينما يحرم الصحافيون الباقون من حقهم في التقصي والتأكد مما ينشر.

مع تطوّر وسائل التّواصل الاجتماعي وترهل القوانين اللبنانية وعجزها عن مواكبتها، حوّلت أحزاب هذه الوسائل لوسائل قمع. خلقت خلاياها الالكترونية وجنّدت جيشاً لممارسة الاغتيال المعنوي وأشنع أنواع الضغوط النفسية على صحافيين تريد لجمهم ودفعهم للخضوع وللترهيب. وللأسف يبادر صحافيون، والممانعون منهم، لتنظيم وقيادة هكذا حملات بغية التحريض على آخرين يقلقون زعماءهم. وأقذر ما في هذه الحملات التحريضية افتراؤها على خصومها وتحريف مواقفهم وإخراجها من سياقها.

حالات كثيرة يتحدّث خلالها زملاء ومواطنون عن خشيتهم من التعبير عن آرائهم مخافة التعرّض لأذى. وهو ما حصل مثلاً عند قيام أحد أبناء العشائر البقاعية بقتل زوجته، حيث قررت زميلات عدم انتقاد ثقافة العشيرة التي بررت القتل وجاهرت به في فيديو مصور، مخافة أن ينلن مصير الضحية. فلهذه العشائر الخارجة عن القانون قدرتها هي أيضاً على قمع الصحافيين من دون حسيب أو رقيب.

بدورها تمارس العائلات بتكليف من الأحزاب وتحريض وغطاء منها مهمة القمع. وهو الدور الذي أرادته لها الأحزاب. فلطالما اعتادت على تكليف عناصر أو مسؤولين فيها من عائلة الصحافي بتوجيه رسائل وتهديدات له لقمعه، أو التحدث إليه بالمونة للضغط عليه. وكثيراً ما تلجأ إلى سياسة العزل الاجتماعي والتحريض على صحافيين لجعلهم عبرة لغيرهم. وتختلف حدّة هذه الممارسات بحسب المناطق والأحزاب المهيمنة عليها لتبلغ ذورتها في تلك التي يهيمن عليها «حزب الله» وحركة أمل أو ما سمّي بالثنائي الشيعي.

لسوء الحظ لا تلحظ الخطابات المنادية بالحرية أو المزايدة بها أشكال قمع الصحافة هذه وغيرها. ولا تعمل على تفكيك البنى الاجتماعية التي ترسّخ القمع وتدفع الكثير من الصحافيين للتطبيع معه فتجعل من الصحافة تابعة بدل أن تكون الرائدة في طرح الأفكار المتقدمة وحثّ المجتمع على التقدّم وبدل أن تكون حارسة لحقوق الناس. فتبقى بغالبيتها أداة لنشر دعاية السلطة ويبقى معظم العاملين فيها خاضعين لمختلف أشكال الرقابة

المصدر
مريم سيف الدين - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى