مقالات

فقل على الدنيا سلام…


تفجرت الأسبوع الماضي قضية قضائية كبرى في لبنان، هزت أركان قصر العدل وتناثرت شظاياها في أكثر من اتجاه. القاضية غادة عون التي تشغل منصب المدعي العام الاستئنافي في محافظة جبل لبنان، وهو منصب قضائي رفيع، طُردت من وظيفتها بجرم مخالفة القوانين الناظمة لعمل القضاة.

القاضية عون كانت شخصية إشكالية حاولت تقمص شخصية القاضي الإيطالي أنطونيو دي بيترو الذي حارب الفساد بلا هوادة في إيطاليا التسعينات، متكئة على سند “قوي” هو رئيس الجمهورية السابق ميشال عون ورئيس تياره السياسي جبران باسيل.

اختارت عون طريقاً محفوفاً بالمخاطر والمنزلقات، ساعية إلى لعب دور البطولة في فيلم لبناني طويل أبطاله متمرسون ودهريون وقارحون ومتجذرون عميقاً. سحبت من جواريرها ملفات فساد، اختارتها بعناية سياسية، واقتحمت بها الساحة مستخدمة الإعلام والأمن وحضورها الشخصي. كان مشهداً غير مألوف على الإطلاق أن تذهب قاضية مع مواكبة أمنية لتخلع باب مؤسسة وتصادر محتوياتها بالقوة، وأن تصبح بين ليلة وضحاها نجمة نشرات الأخبار والتغطيات الميدانية وتكشف الأسرار قبل التحقيق وصدور القرارات. القضاة في كل أنحاء العالم لا يمارسون مهنتهم بهذا الشكل، كأنما أرادت عون أن تحدث صدمة في القضاء، أو أنها كانت تبحث عن شهرة، أو بكل بساطة كانت تنفذ أمراً سياسياً صدر من فوق لملاحقة خصوم سياسيين بتوسّل القضاء. هذا ما يتم تداوله.

لم تكن شخصية عون “تليجينيك”، لم تحبها الكاميرا، إطلالاتها التلفزيونية كثائرة على الفساد ومحطمة لها لم تساعدها كثيراً، لم تتقن لعبة الصورة، بدت كخارجة على القانون أكثر منها كحافظة له. اختياراتها للملفات جمعت ضدها متضررين كثراً، بقدر ما جمعت مؤيدين اعتبروها محامية شجاعة ضد الفساد والفاسدين ومهربي الأموال. وضعت في مواجهتها طبقة كبيرة من النافذين المصرفيين والماليين والسياسيين والجهات المعلومة وغير المعلومة في لبنان والخارج، وفجأة وجدت نفسها وحيدة في مواجهة خصوم شرسين ومحنكين خارج السلك القضائي و”زملاء” متربصين داخل السلك، تشابكت مصالحهم والتقت في لحظة فراغ رئاسي وغياب الحماية عن القاضية فأطاحوها هي وملفاتها الحامية.

ضربة ضربة تم الإجهاز على عون، تعرضت لحملات إعلامية هائلة، تمت شيطنتها، بلغ التنمر عليها أقصاه، حتى تسريحة شعرها استخدمت ضدها، وصفت على مواقع التواصل الاجتماعي بأقذع الأوصاف، طنطن الذباب الإلكتروني فوق أذنيها ليل نهار، حتى اهتزت صورتها وسهل اقتلاعها.

للتاريخ أن يحكم على نيات القاضية عون التي، رغم كل شيء، تمتعت بجرأة كبيرة في تسمية الأشياء بأسمائها، وأشاعت لفترة معينة جواً من الرعب في أوساط الفساد المالي المتهم الرئيسي فيه حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وجماعته من أهل المصارف والسياسة والإعلام حتى. وسيقول الناس رأيهم بها بعد حين، عندما يدركون أن كل القصة كانت أكبر منها ومنهم جميعاً، وأن الأخطبوط بمئة رجل ورجل.

أخطر ما في قضية القاضية عون ليس طردها من السلك، فهي ربما كانت شارفت على التقاعد، بل هو ذلك الخوف الذي أشاعه الطرد من تغلغل السياسة في القضاء. ليس من السهل أن يتقبل عاقل ومتابع في لبنان أن قرار طرد عون كان قراراً قضائياً مستقلاً أملته مخالفات واضحة وصريحة ارتكبتها القاضية استوجبت طردها. الإعلام ومواقع التواصل والتحليلات تتحدث عن صفقة ساسية – مصرفية – قضائية أركانها متضررون من ملفات عون.

ليست عون القاضية الأولى والوحيدة المخالفة، الإعلام مليء بالأسماء، ولم يعد الكلام عن الفساد في القضاء “تابو”. في لبنان كل شيء مفضوح ومباح. المشكلة ليست في كشف الفساد، الفساد مفضوح بالأسماء والأرقام والأملاك والسيارات وما شابه. المشكلة الحقيقية في انهيار القيم وغياب المحاسبة والإفلات من العقاب واستتباع القضاء للسياسة وأهلها.

قضية القاضية عون تفتح جرحاً كبيراً في جسد القضاء اللبناني، فهي وإن كانت قانونياً صحيحة، إلا أنها تؤكد من جديد أن القضاء ليس بخير، فالقضاء لا يمكن أن يكون استنسابياً. ومثلما تبوأت عون موقعاً قيادياً بقوة السياسة أبعدت منه بقوة السياسة. السياسة والقضاء خطان متوازيان يجب ألا يلتقيا لا في سهرات ولا في مجالس ولا في غرف مقفلة ولا في كواليس…

إذا انهار القضاء انتهى العدل وزال الملك. وويل لوطن قضاته محل شبهات تبدأ بالمحاباة والتبعية والارتهان ولا تنتهي بالإثراء غير المشروع.

كان القضاء اللبناني خط الدفاع الأخير عن الوطن، فإذا انهار هذا الخط فقل على الدنيا سلام.

المصدر
راغب جابر - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى