الوقائع الكاملة لفضيحة “تهريبة” رئاسيّة
يحكى أنّ شابّاً أميركيّاً كان جالساً في مقهى يتصفّح هاتفه الذكيّ مثله، فقرأ أنّ زوكربرغ يبحث عن مدير تنفيذي جديد.
فجأة لفتته شابّة قربه يتعامل معها النادل بلياقة فائقة، الأمر الذي أثار حشريّته، فناداه واستوضحه، فأجابه أنّها ابنة جيف بيزوس.
عندها حبكت مع الشابّ ضربة العمر: سأتقدّم من الفتاة وأتودّد إليها معرّفاً عن نفسي بأنّني المدير التنفيذي الجديد لفيسبوك. ثمّ أذهب للتقدّم بطلب وظيفة مارك المعروضة، وأذكر في سيرتي الذاتية أنّني الصهر المستقبلي لمالك “أمازون”.
هي طرفة معبّرة عن مقوّمات الحلم الأميركي لا غير. غير أنّها وصلت أخيراً إلى باريس. ويبدو أنّ موظّفاً حكومياً هناك حاول استنساخها وتطبيقها علّه يحظى بعمولتين: سياسية فرنسية، و”غير سياسية” نيجيرية. وذلك عبر تهريبة رئيس جديد للبنان، بين واشنطن والرياض.
قبل أن تُفتضَح الحبكة وتتردّد تداعياتها في أكثر من مكان.
يؤكّد مطّلعون أنّ الموظّف الحكومي الفرنسي المقصود، باتريك دوريل، أخبر السعوديين أنّه يملك تفويضاً أميركياً مطلقاً في مسعاه الرئاسي اللبناني، موحياً بذلك أنّ واشنطن باركت جهوده لتنصيب مرشّح الحزب في قصر بعبدا.
ثمّ نقل إلى الأميركيين أنّه “فهم” من الرياض “وعداً” بأنّها بعد عيد الفطر ستنقل إلى أصدقائها في بيروت رسائل إيجابية تجاه وصول مرشّح الحزب إلى الرئاسة.
لكنّ المعنيّين سرعان ما دقّقوا برسائل الوسيط الفرنسي. فاكتشفوا أنّ تفويض واشنطن مشروط بسلسلة من البنود. فيما “الوعد” السعودي كان سقفه القول للفرنسي، نتيجة إلحاح ماكرون وإصراره ولجاجة اتصالاته الهاتفية المتكرّرة، إنّنا لا نتدخّل. إذهبوا وحاوروا أصدقاءنا في بيروت. وهذا ما سنقوله لهم نحن أيضاً. تماماً كما تقول طهران لمراجِعيها.
عند هذا الحدّ، بدأت وتتابعت ردود الفعل في باريس كما في واشنطن.
في العاصمة الفرنسية تؤكّد المعلومات أنّ سيلاً من الرسائل بمختلف وسائل الاتصال والتواصل بدأ يمطر، منذ أسبوعين، دوائر الإليزيه والكي دورسيه خصوصاً، تحت عنوان: ماذا تفعلون؟ هل جُننتم؟
مسؤول الملفّ اللبناني الاقتصادي السابق، بيار دوكين، روى لأصدقائه أنّه لمناسبة تقاعده، لم يلتقِ أحداً إلّا وحمّله تحذيراً من مخطّط الإليزيه الرئاسي للبنان.
شبكات اللبنانيين-الفرنسيين نظّمت حملات منهجية. على طريقة مجموعات الضغط وبالأسلوب الأميركي. مع رسائل حملت معلومات ووقائع عن مرشّح الحزب وعن راعيه الملياردير “النيجيري” وعن ملفّات قضائية بحقّه في جنيف وواشنطن وغيرهما.
حتى بدأت أصداء التهريبة تتردّد. فكان تتويجها مقال رينو جيرارد الافتتاحي في “لوفيغارو” يوم 2 الجاري.
في الشكل، ليس الكاتب صحافيّاً وحسب. إنّه أحد أعمدة الصحافة الفرنسية المكرّسين. ابن عائلة مقاوِمة قدّمت أكثر من شهيد بمواجهة الاحتلال النازي. خرّيج اثنين من كبار معاهد فرنسا: Ecole Normale Superieure والمعهد الوطني للإدارة، الذي تخرّج منه ماكرون نفسه بعد عقود، فضلاً عن معهد سان سير العسكري الشهير، خلال خدمته في الجيش الفرنسي.
وهو في عمله الصحافي رفيق الرؤساء، حتى ماكرون نفسه الذي غالباً ما يصطحبه في رحلاته الرئاسية. باختصار، كلمته صانعة رأي عامّ ومساهِمة في صنع قرار.
في المضمون كان جيرارد قاسياً في جَلْد “عدم الانسجام” الماكروني في بيروت. ويؤكّد مطّلعون أنّ ثمّة عبارة وردت في مقاله تكشف سرّ كتابته. حين يذكر “ذريعة أنّه كان صريح الكلام”، في نقله لموقف باريس من فرنجية. وهو كلام يكشف أنّ الكاتب قد ناقش المسؤولين الفرنسيين مباشرة بموضوع دعمهم مرشّح الحزب، وأنّه سمع من ماكرون شخصياً ربّما، ما نُقل إليه عن تقديم فرنجية نفسه لهم قائلاً لهم كلّ شيء صراحة. موقفه من الأسد والحزب والحرب ودوره خلال 30 سنة من عهود منظومة الحكم وصداقاته ودائرة رجاله… وقيل أنّهم قدّروا صراحته الصادمة!
المهمّ أنّ المطّلعين أنفسهم يؤكّدون أنّ مقال جيرارد ليس سوى بداية. وسيليه ما سيكون أكثر قسوة. والأهمّ أنّ جيرارد تلقّى بعد صدور افتتاحيّته سلسلة اتصالات من المسؤولين المعنيّين، خلاصتها أمران: لنفترض أنّك على حق. ما العمل؟
يختم جيرارد افتتاحيّته بالتحذير من أنّه “ليس من غير السويّ أن تسعى فرنسا ذات يوم إلى إعادة سوريا وإيران إلى ساحة الأمم. لكنّ الرغبة في منحهما مفاتيح لبنان اليوم، أمر غير متّسق تماماً”. هي عبارة تلخّص جوّ واشنطن، أكثر من فهم باريس.
ففي الجانب المقابل من الأطلسي تبدو الأمور أكثر تعقيداً. هناك تندرج مسألة الرئاسة اللبنانية ضمن مشهد أكبر: من الصين وقضية تايوان، إلى حرب أوكرانيا، وصولاً إلى إشكالية إيران، انتهاء بسوريا، وصولاً إلى هذا التفصيل الصغير المسمّى لبنان.
خلاصة الكلام في واشنطن: صحيح أنّنا كلّفنا باريس تدبير حلّ ما مقبول لمستنقع بيروت المستدام. لكن هل يُعقل، فيما نحن نخوض حرباً ضدّ روسيا في أوكرانيا، وفيما إيران تضيف إلى عدائها لنا، دعماً تسليحياً مباشراً لبوتين هناك، وفيما نعلن رفضنا أيّ تطبيع للوضع في سوريا ومع الأسد، إلا انطلاقاً من إطار القرار 2254 للحلّ السياسي الشامل… في هذا الوقت بالذات، هل يُعقل أن نقبل مع ماكرون بإعطاء رئاسة لبنان للخيار الأسديّ الإيراني الروسي بامتياز؟! لا بل أن نعطي ماكرون هذا الامتياز، وهو يقصفنا من بكين ويحرّض علينا أوروبا في قضية تايوان بالذات؟!
فإذا كان سياسيّو وحكّام بعض الدول من النوع الذي لا يقرأ، فضلاً عن كونهم لا يكتبون طبعاً، فإنّ المعنيين في واشنطن يقرأون ويحفظون ويستوعبون. وسلسلة الوثائق في هذا الملفّ طويلة. وهذه عيّنة بسيطة عنها في نحو شهر واحد:
في 27 آذار الماضي وجّهت 40 شخصية أميركية وسورية رسالة إلى جو بايدن وأنتوني بلينكن، خلاصتها التحذير من أيّ تساهل مع الأسد. وبين موقّعيها كلّ أعلام الخارجية والجيش والمخابرات المركزية السابقين.
في 18 نيسان جاءت ضربة ديفيد أغناتيوس في افتتاحية “واشنطن بوست”. وأهل واشنطن يعرفون من هو الرجل وما هي تلك الصحيفة، منذ “واترغيت” حتى اليوم.
بعد أسبوع واحد، في 25 نيسان كانت قنبلة رسالة مننديز – ريش إلى بايدن. والمرسِلان ليسا مجرّد رجلين من رجال الكونغرس البالغ مجموعهم 535 عضواً في المجلسين. إنّهما أكثر الشيوخ تأثيراً. في أكثر اللجان نفوذاً. ويمثّلان الحزبين معاً. وكتبا لسيّد البيت الأبيض بأنّ نبيه برّي يقوم بدور سلبي لصالح الحزب في بيروت. وأنّ المطلوب هو العمل مع “حلفاء واشنطن وأصدقائها” في المنطقة لحلّ رئاسي لبناني سيادي وإصلاحي، مغاير لما كان ويكون.
وهي رسالة يفهمها برّي تماماً. كما فهم رسالة العقوبات على علي حسن خليل، فكان الترسيم.
والرسالة فهمها بايدن نفسه. فبعد أربعة أيام، في 29 نيسان، وقف المرشّح الرئاسي الثمانينيّ في عشاء مراسلي البيت الأبيض، مازحاً ضاحكاً موزّعاً كلّ أنواع النكات، من شاشة مردوخ إلى فصل كارلسون. ومن جنون النائبة تايلور غرين إلى تغريدات إيلون ماسك. لكنّه عرف كيف يقول بجدّ كامل إنّ قضية أوستن تايس المحتجَز في سوريا هي قضية جوهرية لإدارته، متحدّثاً بالتفصيل عن قضية اختفائه.
بعد يومين، في 1 أيار، صدر بيان الخارجية الأميركية عن حاجة لبنان “إلى رئيس غير فاسد وقادر على توحيد البلاد وتعزيز الشفافيّة والمساءلة”.
فيما طوال تلك الفترة، كانت العقوبات الأميركية تمطر أكثر من 74 شخصيةً وكياناً، من طهران ودمشق إلى بيروت، بينهم أقرباء للأسد وقريبون من صديقه مرشّح الحزب لرئاسة لبنان.
استهلاكٌ أميركيّ إعلاميّ وحسب؟
من يقول ذلك يسهو عن باله أنّ واشنطن اليوم عشيّة إطلاق تمهيديّاتها الرئاسية. وفي فترات كهذه تتحوّل إلى قِدْر يغلي بكلّ ما فيه. وقادر تحت نار الرئاسيّات على التفجّر بكلّ اتجاه. آخر تلك السياقات ذهاب بوش الابن إلى قانون محاسبة سوريا والقرار 1559، عشيّة رئاسيّات ولايته الثانية.
بماذا يذكِّر هذا المشهد؟
بواقعتين: الأولى أنّ آخر محاولة فرنسية لتمرير رئيس للبنان، كانت سنة 1943. يومها كان البلد كلّه تحت انتداب باريس. وكان البرلمان المنتخَب برعاية مفوّضها السامي، مكوّناً من 55 نائباً فقط. ويومها أرادت باريس إميل إدّه رئيساً. ففاز بشارة الخوري.
الواقعة الثانية، بين 1989 و1990، مع إقرار اتفاق الطائف. يومها راجت طُرفة مفادها أنّ الجنرال عون وافق على الطائف. لكنّ الأزمة مستمرّة بانتظار من يُقنع رينيه ألا، سفير باريس في بيروت يومها.
اليوم يبدو أنّ كلّ العالم اقتنع باستحالة رئيس لبناني غير سيادي وغير إصلاحي. لكنّ الفراغ مستمرّ، بانتظار من يقنع باتريك دوريل بذلك.