مقالات

الواقع المصري واللاجئون!


ودخل بلد عربي آخر نفقاً مظلماً جديداً ليس من المتوقع أن يخرج منه قريباً. ليست المرة الأولى التي تتدفق فيها أمواج اللاجئين من دول ضربتها الانقسامات وعصرتها الاضطرابات وأطاحت بأمنها رياح الفوضى وأعاصير الاقتتال الداخلي، فمن السودان الى مصر يتدفق مهاجرون جدد، لتضغط أزمة جديدة على اقتصادها المتعب وبنيتها التحتية التي تسعى الى التعافي وأسواقها التي تئن بأوجاع المستهلك المصري وباقي الضيوف.

لا تستغرب الجدل بين المصرييين حول موقف الدولة من معاملة اللاجئين العرب كما المصريين، من دون فرض رسوم أو غرامات أو تمييز عند البيع والشراء والتمتع بالخدمات، فالدولة المصرية، رغم أوجاعها، تنظر الى الأمر من منظور آخر بل تكاد تفخر بكون مصر هي الوجهة الأولى للاجئ العربي، ليس فقط الذي تضطره الظروف وتداعيات الكوارث الى عبور الحدود كما حدث مع الفلسطينيين او الليبيين وأخيراً السودانيين ولكن أيضاً هؤلاء الذين اختاروا الفرار الى مصر رغم بعد المسافات، كاليمنيين والسوريين والعراقيين، أو قبلهم وبعدهم هؤلاء الذين أتوها سياحاً فاستمتعوا، أو كمستثمرين حققوا الأرباح الطائلة أو كفنانين سطعوا مع أضواء مصر وشمسها.

هل لدى المواطن العربي الثقة في أن يكون السودان البلد العربي الأخير الذي تهلكه الفوضى؟ الواقع لا يشير الى ذلك بعدما صارت الأيادي الأجنبية تعبث في القلب العربي، بينما العرب عاجزون عن حل مشاكلهم، فلجأ بعضهم إلى دول أخرى، أو تنظيمات دولية، أو جهات خارجية، كي تحل المعضلات وتفك الطلاسم وتفسر الألغاز فتتعقد المشاكل وتكبر الأزمات وتتشتت الشعوب. قبل هبوب الربيع العربي كان المجتمع الدولي يتدخل ليفرض حلولاً على دولة عربية، أو أكثر، بينها وبين دولة أخرى، أو أكثر، مشكلة أو خلاف أو نزاع، أما بعده، فصار الأمر مرتعاً أمام الكبير والصغير، من الأمم المتحدة ومنظماتها إلى أصغر منظمة حقوقية أو قناة فضائية أو حتى موقع إلكتروني، ليقترحوا الحلول أو ليفرضوها.

المؤكد أن العربي اللاجئ لا يفكر، أثناء وجوده في المخيمات على الحدود أو داخل أسوار معتقلات استقبال اللاجئين في أوروبا، في تشكيلة البرلمان الذي يحلم بها في بلاده، فالأمر يكاد يكون هزلياً، إذ إن اللاجئ الذي فر من سوريا أو العراق أو ليبيا أو اليمن أو السودان يبحث عن الأمان والمأكل والملبس والحماية من المرض والبرد والموت ويأمل في تأشيرة دخول وبيت وفرصة عمل، أما البرلمان وشكل الحكم وطبيعة النظام السياسي وتحالفات النخب والأحزاب السياسية ونظافة الشوارع وتوافر السلع وإزدحام المرور، فصارت بالنسبة له مجرد ذكريات.

مطلوب منك، لارضاء عشاق الربيع العربي، أن تكذب على نفسك والآخرين، وتفخر بأن الربيع العربي أتى للعرب بالحريات والرفاهية والعدل والمساواة، وتنظر حولك فلا تجد منها شيئاً، وأن تصدق أن العرب نُقلوا من مرحلة التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العشوائية إلى النظام، ومن الخوف إلى الشعور بالأمن والسلامة بعد موجة الثورات. لم يبدأ الربيع العربي قبل أكثر من عقد كما نعتقد، في تونس ثم مصر ثم في دول عربية أخرى، ولكن رائحته كانت تُنبئنا عن الخطر القادم، عندما سقطت بغداد وانهار العراق يوم 20 آذار (مارس) 2003، أي قبل 13 سنة بالتمام والكمال، وبعدها زحف الربيع وسقطت عواصم أخرى حتى وصلت تداعياته الى السودان.

ما زالت مصر تقاوم وتعاند وتجابه ما تبقى من آثار وأعاصير، وستستمر كذلك لفترة، ومعها دول عربية أخرى اقتنعت أن لا خيار لها سوى العمل على تفادي المصير الذي آل إليه العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان، لتدفع الدول الناجية ثمن بقائها، وستظل لفترة تعاني، فعلاج السرطان يحتاج إلى وقت.

إجلس أمام قنوات “الإخوان المسلمين” واسمع وشاهد محترفي التحليل السياسي وهم يعرضون عليك رؤاهم للديموقراطية في العالم العربي، والقوانين التي سيقرها ذلك البرلمان أو ذاك، وصراعات الكتل السياسية والأحزاب، وستفاجأ بعدها أن كل ما سمعته لا يعبر عن واقع جديد تعيشه مصر، وأن ما شاهدته ليس أكثر من “مكلمة” انفجرت في وجوه المواطنين المصريين منذ كانون الثاني (يناير) 2011 ولم يكن لانفجارها إلا نتائج سلبية. تابع اصطياد “الإخوان” لكل خطأ وأي تصرف داخل مصر والسعودية والإمارات، وكل كلمة ينطق بها مواطن، وكل مشهد تنقله شاشات التلفزيون، وكل صورة يلتقطها مصور. طالع كل مقال يُكتب في صحيفة “إخوانية” تصدر في الخارج، أو أي خبر في موقع إلكتروني إخواني يبث من الخارج أو الداخل، واقرأ حملات التشهير والسخرية من كل مشروع جديد، لكن هذا لا يجعلك تتوقع أن يعود “الإخوان” إلى السلطة، أو تعتقد أن المرشد سيختار بديلاً لمحمد مرسي ليجلس مجدداً على المقعد الرئاسي، أو أن قاعة البرلمان ستستقبل قريباً نواباً ينتظرون التعليمات من المرشد. اجلس أمام جهاز الكومبيوتر وجُل بين صفحات الناشطين و”الثورجية” على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحظ ضجرهم من الاوضاع في مصر، واضحك على سخريتهم من كل حدث وكل مشروع، وتقبل، ولو على مضض، تجاوزاتهم “اللفظية” في حق كل من يعارضونه، وتطاولهم على مخالفيهم في الرأي والموقف، ثم اتركهم على حالهم فهُم لم يعودوا مؤثرين وسيبقون هكذا طالما اختاروا العزلة عن الشعب والوطن.

تابع مواقف بعض الجهات الغربية التي لا تعجبها سياسات الدولة في مصر وعبور البلد معضلات وأزمات وتداعيات الربيع العربي، لكن لا تعوّل على أي طرف خارجي، فمصر تسترد مكانتها ولو على مراحل، بعدما تخطت مرحلة الخطورة ونجت من التفكك والتقسيم، واحتفظت بجيشها ليحمل البلد على أكتافه.

الواقع يشير إلى أن الربيع العربي تحوّل سرطاناً وجحيماً على أصحابه لأسباب عدة، قد تتفق أو تختلف مع الآخرين حولها، لكنها لا تخفي الواقع الذي يعيشه كل العرب. نعم كان الإرهاب موجوداً، لكن ليس بالقدر الذي يهدد دولاً بالسقوط. صحيح أن الجماعات الأصولية الراديكالية كانت منتشرة في أكثر من دولة، لكنها لم تتمكن قبل عواصف الربيع العربي من احتلال مدينة، أو السيطرة على دولة، أو إسقاط نظام حكم، أو التحكم في خلق الله. كانت الشعوب العربية تعاني فقراً وجهلاً وتخلفاً على مختلف الأصعدة، لكنها كانت تحتفظ بالحد الأدنى من الأمان وأسس العيش ولو بالكاد. لم تكن الحياة وردية لكن الموت كان أقل احتمالاً.

يغضب معارضو الأنظمة العربية وناشطو الثورات ونجوم الفضائيات إذا ما نبهتهم إلى أن رياح الربيع العربي وتفشي خطر تنظيم “الإخوان” الإرهابي لم تخلف وراءه إلا أنظمة مفككة ودولاً مقسمة ومجتمعات ممزقة وبلداناً مهددة بالسقوط وأوطاناً ظلت راسخة لظروف صارت مشغولة بمواجهة التهديدات، ويعتقدون أنك بذلك تدعم الأنظمة السلطوية، وتؤيد الحكومات الديكتاتورية، وكأن المطلوب منك كي تكون وطنياً وثورياً ومناضلاً أن تغمي عينيك، أو أن تداري الشمس بيديك، وأن تتغافل عن ملايين من اللاجئين العرب الموزعين على الخيام والشواطئ، أو الذين غاصت جثث بعضهم في البحار والمحيطات… أو ينتظرون الآن دخول مصر من حدودها الجنوبية.

المصدر
محمد صلاح - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى