مقالات

لبنانيو السودان فرّوا من أَسود الحرب إلى أسوأ الأزمات

هل هو قَدَرٌ يرافق اللبنانيين أينما حلّوا ويدفعهم لترْك ملاذاتٍ ظنّوها آمنة والهروب عكسياً نحو الوطن الكئيب تحت ظروف ضاغطة؟ هكذا كان حالهم في الأمس القريب في أوكرانيا، وهذا حالهم في السودان.

جالية لبنانية تعيش في ربوع أرض عربية انقلبتْ أوضاعُها بين ليلة وضحاها وغرقت في بحر الخوف من الحاضر والمصير المجهول.. استنجدت بدولتها لإجلائها فجاءها الردُّ سريعاً بالتعاون مع دولة شقيقة هي المملكة العربية السعودية هبّت للمهمة، فكانت رحلة العودة التي لم تخلُ من الصعاب والعراقيل.

لم يحدد المسؤولون اللبنانيون بدقة عدد أفراد الجالية اللبنانية المقيمين في السودان وإن كان العدد المتداول 200 شخص يعيش 50 منهم في الخرطوم والباقون في أماكن متفرقة من السودان.

ومع اندلاع الصراع المسلح في الخرطوم استنفرت الدولة اللبنانية وبدأت الاتصالات بالدول الصديقة القادرة على تأمين عملية الإجلاء ومنها فرنسا والمملكة العربية السعودية. وأُطلقت الدعوات لكل من يرغب بترك الأراضي السودانية للاتصال بسفارة لبنان في الخرطوم حتى يتم تنظيم عملية الإجلاء.

القدَر كان رحيماً باللبنانيين إذ أن أعداداً لا بأس بها منهم كانت تمضي فترة الأعياد في لبنان ما جنّبها أن تكون عالقة وسط حرب اندلعتْ بلا مقدمات. أما مَن تبقى فسرعان ما تجاوبوا مع الدعوات للإجلاء وبدأوا بالتجمع في فندق روتانا في الخرطوم وساعدهم بذلك هدنة أُعلنت لمدة ثلاثة ايام. وبعضهم تعذّر التواصل معهم كونهم في مناطق قُطعت فيها الاتصالات وشبكة الانترنت.

وكانت الخارجية قد أبلغت أيضاً اللبنانيين الراغبين بالتوجّه الى الحدود المصرية عن طريق البر بضرورة إعلام سفارة لبنان في القاهرة بذلك وترْك نسخٍ عن جوازات سفرهم وتحديد نقطة الدخول ليتم طلب إذنٍ دخولٍ لهم من الجهات المصرية المختصة على أن تبلغهم السفارة بذلك حين يتم الحصول على الإذن.

ونصحت الخارجية الراغبين في عبور الحدود بالتنقل جماعاتٍ، مستخدمين وسائل نقل جَماعية بدل سياراتهم حرصاً على أمنهم وسلامتهم.

على 3 دفعات عاد لبنانيون السودان إلى بيروت، وآخر دفعة وصلت الجمعة وعلى متنها 27 مواطناً تم إجلاؤهم على متن سفينة للبحرية الملكية السعودية عن طريق مدينة بورتسودان، فجدة في المملكة العربية السعودية فمطار رفيق الحريري الدولي، وبينهم سفيرة لبنان في السودان ديما حداد وعائلتها.

تركوا كل شيء خلفهم

بعضهم فضّل عن قناعة البقاءَ حيث هو وعدم ترك البلاد. وهل يُلام من أراد الحفاظ على رزقٍ وعملٍ وبيتٍ تعِب في تأسيسه وظن أنه وجد فيه بديلاً عن مستقبل غير واضح المعالم في وطنه الأم؟

أحد المغادرين وقف أمام شاشات التلفزيون باكياً ليقول: «جهد 17 عاماً تَرَكْتُهُ بلحظة، تخلّيتُ عن كل شيء وخرجت بملابس النوم كما ترون، لا أعرف ماذا ينتظرني…».

حاله مثل أقرانه من اللبنانيين الذين يعملون منذ سنوات طوال، في بلدٍ حيث وجدوا الدولة القوية الحازمة والاستقرارَ الأمني والاقتصادي. وهؤلاء وإن لم تكن أعدادهم كبيرة اليوم، إلا أنهم شكلوا فيما مضى جالية لبنانية كبيرة وصل عددها الى ما يقارب 5000 شخص، وفق ما يقول السفير اللبناني الأسبق في السودان شربل اسطفان الذي أعدّ تقريراً مفصلاً حول العلاقة التاريخية بين البلدين.

هي علاقة تجارية وثقافية وإنسانية تعيدها بعض الدراسات الى أيام الفنيقيين حيث كانت التجارة والتمرّس في ركوب البحر يَجمع بين الشعبين. في العصر الحديث ومنذ بداية القرن العشرين وبعدما فصلت الإدارة البريطانية الاقتصادَ المصري عن الاقتصاد السوداني صار السودان بحاجة الى مَن يتقنون اللغةَ الإنكليزية الى جانب العربية، فكان للبنانيين نصيبَهم الأوفر وتَكَثَّفَ وجودُهم في السودان كمترجِمين وأطباء ومهندسين في حين كان أبناء السودان يقصدون الجامعة الأميركية في بيروت للدراسة، وأبرزهم اسماعيل الأزهري صانع استقلال السودان. وأول صحيفة صدرت في السودان عام 1903 أصدرها صاحبا جريدة المقتطف المصرية اللبنانيان يعقوب الصراف وفارس نمر، وقد درّبا السودانيين على الصحافة. واستمرّت العلاقة الثقافية بعدها حيث طبّق السودان المقولة المعروفة «لبنان يطبع والسودان يقرأ».

منذ استقلال السودان في 1956 قويَ الحضورُ اللبناني إلى أن جاء حكم جعفر النميري من جهة والتأميم الذي فرضه، وجاءت الحربُ اللبنانية من جهة أخرى ليساهما في ضمور الوجود اللبناني في السودان. لكن مع ازدهار السلام فيه بتوقيع إتفاقية السلام الشاملة مع الجنوب في مستهلّ العام 2005، عاد الحضورُ اللبناني الى التألق ولا سيما أن اللبنانيين مهيّئون للاستثمار في الصناعة والتجارة والزراعة، وعاد تبادل الزيارات الرّسمية والخاصّة والأهلية والثقافية والسياحية على كافة المستويات، بعد قطيعةٍ أو ما شابهها دامت نحو 17 سنة.

لكن هذه العودة لم تصل في أعدادها الى ما كانت عليه سابقاً، كما يقول السفير الأسبق شربل اسطفان. ورغم ذلك، أسس اللبنانيون مصارف في الخرطوم وفنادق ومطاعم وشركات عديدة يعمل بعضها في قطاع البترول والبناء والعصائر. والجدير ذكره أنه حين أقيمت القمة العربية في الخرطوم احتاجت إلى بناء 52 فيلا لإقامة الوفود وكان أحد اللبنانيين مَن تولى هذا المشروع برمّته. كما أن رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي أسس أول شركة للاتصالات الخلوية في السودان ثم ما لبث أن باعها.

عملية إجلاء صعبة

السفيرة ديما حداد قامت بكل الجهود المطلوبة للمساعدة بإجلاء اللبنانيين إثر الاضطرابات العسكرية بالتعاون مع رئيس الجالية اللبنانية سعدالله ميقاتي. لكن عملية الإجلاء لم تكن سهلة وفق ما رواها بعض المغادرين الذين عاشوا خوفاً وقلقاً شديدين عند إندلاع المعارك العسكرية.

ويقول أحد اللبنانيين الذين وصلوا الى بيروت مع أول دفعة من الذين تم إجلاؤهم: «طُلب منا البقاء في أماكننا حتى ورود تعليمات أخرى، لكننا لم نعد قادرين على البقاء تحت القصف. سرنا مسافة أربع ساعات في ظل حرارة مرتفعة ولم تكن هناك سيارات لتنقلنا. صادفنا مسلّحين على الطريق وحواجز عسكرية وحاولنا مسايرتهم لنتمكن من إكمال سيرنا للوصول الى فندق روتانا حيث نقطة التجمع».

من نقطة التجمع في فندق روتانا، نقلت الباصات التي سيّرتْها وأشرفت عليها دولة الإمارات المتجمّعين في قوافل الى منطقة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر، فوصل اللبنانيون بحماية إماراتية الى المرفأ المتواجد على الضفة الغربية للبحر الأحمر حيث رست مساء الاثنين سفينة سعودية تابعة للبحرية السعودية وحملت عدداً من اللبنانيين وعرباً من جنسيات مختلفة وأوروبيين الى قاعدة الملك فيصل الواقعة في مدينة جدة على الطرف المقابل للبحر الأحمر.

المملكة العربية السعودية التي أعدّت خليةَ أزمة عالية الفاعلية لتنفيذ عمليات الإجلاء، اعتبرت إجلاء المواطنين اللبنانيين من أولوياتها وهذا ما كان له شديد الأثر على لبنان بمسؤوليه ومواطنيه. وفي كلمة له قال وزير الخارجية اللبناني عبدالله ابو حبيب: «كنا تيتّمنا لولا مساعدة المملكة لنا»، في إشارة الى اللفتة الإنسانية الكبيرة التي خصت بها المملكة اللبنانيين باعتبارهم أولوية في الإجلاء. ولم ينسَ الوزير توجيه الشكر الى دولة الإمارات التي كان لها الفضل الكبير في إيصال الجالية اللبنانية الى نقطة التجمع في الطريق الى بر الأمان.

إلى جدة وصل بدايةً 52 لبنانياً وتم تسهيل الأمور لهم، ومُنحوا تأشيرة قصيرة المدى، ومعهم أيضاً فلسطينيون يحملون وثائق لبنانية وبعض السوريين. المملكة أمّنت فنادق للواصلين ليرتاحوا فيها بعد كل ما عاشوه من قلق وتوتر. لكن الأمر لم يخل من بعض الإشكاليات القانوينة المتعلّقة بجوازات السفر المنتهية الصلاحية لبعض اللبنانيين أو وثائق للفلسطينيين. لكن الأمين العام للهيئة العليا لللإغاثة في لبنان اللواء الركن محمد خير أعلن أن التعاون مع السفير السوداني في جدة والقنصل اللبناني العام في جدة وليد منقارة قد تمّ لحل مشكلة تجديد جوازات السفر لأطفال سيدة لبنانية متزوجة من مواطن سوداني، بالاضافة الى سيدة اخرى من آل حمود كانت موجودة في مصر، وتم العمل مع السفير اللبناني في القاهرة علي الحلبي لتأمين الإذن الخاص لها لدخول مصر.

من جدة، انطلقت على متن طائرة تابعة لطيران الشرق الأوسط اللبناني أول دفعة من المغادرين ووصل الى لبنان 12 مواطناً لبنانياً وفلسطينياً استقبلهم وزير الخارجية على أرض المطار وتلتْهم دفعة ثانية وصلت فجرالثلاثاء وضمّت 32 شخصاً بينهم 12 فلسطينياً مع وثائق لبنانية ليكتمل وصول العائدين في الدفعة الثالثة التي أنهت عملية الإجلاء. أما مَن تبقوا ولم يستطيعوا الالتحاق بالقافلة المغادرة ويقال إن عددهم 15 لبنانياً فالخارجية اللبنانية أعلنت أنها ستعمل على تنظيم عملية إجلاء أخيرة لهم إذا سمحت الظروف الأمنية واللوجستية بذلك وخُصصت لهم أرقام هاتف للاتصال والتنسيق.

رغم نجاحها لم تكن العملية سهلة أو خالية من المخاطر: «كنا نعرف أن الأوضاع الأمنية غير مستقرّة ويمكن أن تعود الاشتباكات في أي لحظة» يقول أحدهم ممن عرفوا هذه الأوضاع المتقلبة إبان الحرب اللبنانية «فقد قطعنا مسافة طويلة عبر الأدغال ضمن القافلة وكان الخوف رفيقنا حتى وصلنا الى بورتسودان».

على أرض مطار بيروت كان القلق واللهفة يتجاوران في عيون الأهل المنتظرين عودة أبنائهم. بدوا فرحين لوصول هؤلاء سالمين بعد كل ما عانوه. ولم تكن المعاناة بسيطة حيث أن البعض علقوا بين النيران والقناصة والقذائف، ونالت منازلهم حصتها من الإصابات. حتى منزل السفيرة ديما حداد تعرض لإصابات وقد استنجدت حينها عبر الإعلام طالبة المساعدة وروت كيف انهم محاصَرون وعالقون بين نارين. لكن فرحة الأهل كما فرحة العائدين بالسلامة تخفي خلفها خيبة كبرى. مَن يعوّض على هؤلاء ما خسروه؟ مَن يساعد أهلهم وهم كانوا لهم السنَد، من السودان أرض رزقهم؟ وما الذي ينتظر هؤلاء في بلدٍ مُنْهَك يفكّر غالبية شبابه بالرحيل؟

المصدر
الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى