مقالات

من بعبدا إلى خلدة: التعنت يستسقي التعنت

نجح حزب الله ولأسباب متعددة، في أن يرث الوصاية السياسية والأمنية التي كانت تمثلها سوريا في لبنان. فقد أصبح الحزب، بعد انسحاب الجيش السوري، وعلى مراحل وعبر تكتيكات متعددة، هو المقرر والمسير والمفشل أو المحبط، لأية صيغة من الصيغ والمعادلات السياسية في هذا البلد. وإذا كان تطبيق اتفاق الطائف وانتظام الحياة السياسية والدستورية قد تأثر تأثيراً كبيراً وحاسماً بموجبات وجود وسيطرة النظام السوري أمنياً وسياسياً، كمرحلة أولى بعد إقرار الطائف والعمل بالتعديلات الدستورية التي أقرها، فإن لبنان بنظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قد تأثر تأثيراً حاسماً وجوهرياً بالسيطرة والنفوذ والأسلوب الذي مارسه، ولنقل فرضه، حزب الله والقوى التي تدور في فلكه منذ الثامن من آذار 2005.

السمة الغالبة والمسيطرة لأسلوب ومنهج حزب الله في الممارسة السياسية الداخلية استندت في أغلب الأوقات، إلى قاعدة واحدة ووحيدة، وهي استخدام وهج القوة المسلحة وأسلوب الفرض القسري على المعادلة السياسية، بغية التأثير بها والسيطرة عليها، وجعلها مطواعة وفق رغباته وما يراه صالحاً له.

انحاز حزب الله، وباستمرار في موقفه الممارس إلى عدم الاعتراف والتنصل من آلية عمل النظام السياسي اللبناني، القائم نظرياً على اللعبة الديمقراطية البرلمانية، والتي كان عاش عليها النظام السياسي اللبناني فترة طويلة قبل العام 1975. والدليل انتخاب سليمان فرنجية الجد وقبله وفقاً لهذه القاعدة.

أغلب مواقف حزب الله وممارساته كانت تتجه نحو تطويع هذا النظام، وتعطيل تلك الآلية المفترضة، عن طريق “الإكراه الديمقراطي الإجباري”.

أراد حزب الله إيصال حليفه، قائد صناعة الأحلام والأوهام، الزعيم المؤسس لجمهورية “كيم إيل عون” إلى القصر الجمهوري، فعطل الانتخاب في مجلس النواب سنتين ونصف السنة، كرمى لعيون الوعد الصادق للحليف الوفي الجنرال “البستنجي” المتواضع زارع الخضروات والحشائش، في “حواكير” حديقة فيلا الرابية.

كانت النتيجة بعد وصول الجنرال “بيّ الكل”، ست سنوات من الحفر والهدم باتجاه أعماق جهنم، حيث انهارت كل المداميك والأسس التي بناها الشعب اللبناني منذ مأثرة الاستقلال الأول حتى العام 2019.

كان يفترض بالحد الأدنى من المنطق السليم أن يُجري الحزب مراجعة للتجربة الماضية، بأن يبدل في الأسلوب الذي كان اتبعه، على أمل إخراج البلاد من الأزمة التي وصل إليها لبنان، بالابتعاد عن الطريقة السابقة التي أدت إلى النتائج الكارثية. كان المطلوب أو المفترض بعد الكارثة، فتح الباب أمام تجربة جديدة، تسمح بوصول رئيس للجمهورية يحظى بإجماع أغلب الأطراف اللبنانية، لكي يستطيع شق طريق إعادة النهوض من جديد، بعد أن تحول أكثر من 90 % من المواطنين إلى فقراء.

حين قرر الحزب أن سليمان فرنجية هو المرشح المختار الذي لا يطعن المقاومة في ظهرها، ذهب نحو تكرار الأسلوب السابق الذي اعتمده لإيصال عون. لكن مع تعديل بسيط، وهو بدل منع الجلسات وتعطيلها، اعتمد استخدام أسلوب الورقة البيضاء التي أفضت في النهاية إلى تعطيل الانتخاب.

الأمر الذي استجد هو أن الأطراف التي كانت تلتزم باللعبة الديمقراطية، أي الحضور إلى مجلس النواب، قررت أن تلعب اللعبة نفسها التي يلعبها حزب الله، أي تعطيل النصاب. فبعد أن كان سمير جعجع قد أعلن ان القوات اللبنانية ستشارك إذا تأمّن النصاب لمرشح ما، عاد وقرر تعطيل النصاب، أي اعتماد لعبة وأسلوب حزب الله ومحور الثامن من آذار، لينضم إليه بعد ذلك حزب الكتائب، ويصبح التعطيل سيد الموقف من الطرفين.

من الناحية العملية، جر أسلوب حزب الله “التعطيلي الإكراهي” باقي الأطراف للرد عليه وتقليده، فتعطلت كل آليات النظام. ولم يعد مجلس النواب قادراً على عقد جلسة تشريعية واحدة، حتى لو كانت من أجل تأمين الهواء أو أي أمر ضروري. ولم يعد المجلس قادراً على انتخاب أي رئيس لا يوافق عليه المحور الآخر. وتحول البرلمان المنتخب حديثاً جثة متعفنة ومتفسخة تفوح منها الروائح الكريهة.

الأسلوب المتبع في السياسة، أي الفرض والإكراه هو نفسه اتبع إزاء أحداث خلدة مع العشائر العربية.

المؤتمر التضامني الذي عقد في خلدة وأطلقت فيه مواقف عنترية نارية في وجه حزب الله، مع ما تحمله من دلالات متعددة مقلقة، كان بالإمكان تلافيه وقطع الطريق على سبل التحريض والاستغلال لو أن أحكام المحكمة العسكرية غب الطلب، المسيَّرة والموجهة، راعت الحد الأدنى من التوازن وروح العدالة من حيث الشكل، بين الطرفين المتنازعين، ولم تظهر أنها تنحاز بشكل كلي إلى طرف دون آخر.

كان بالإمكان معالجة أمر أحداث خلدة بقليل من الحنكة، والتوازن، والاتزان، والحكمة، والتروي.

الأسلوب الذي اتبع في التعاطي مع انتخاب رئيس الجمهورية في المرة الأولى، وحالياً في المرة الثانية، عبر التعنت والتهديد وإطلاق الوعيد، والتمسك برأي تعطيلي واحد، أدى إلى ظهور وتكون محور تعطيلي مقابل، يحمل صفات مسيحية “محتقنة” ومأزومة. هذا الأسلوب نفسه اتبع واعتمد إزاء أحداث خلدة، أدى ودفع إلى تقاطر وتقاطع خصوم حزب الله، بما في ذلك نواب من تكتل التغيير البعيد عن المحاور المعتادة، للوقوف على خاطر العشائر في خلدة، والتنديد بممارسات الحزب وأسلوبه.

على حزب الله أن يعيد حساباته من الآن وصاعداً، لأنه كما يقال “كترة الدق بتفك اللحام”، والتعنت الدائم من جهة واحدة، يستسقي ويستدرج التعنت المقابل من الجهة الثانية.

المصدر
عارف العبد - المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى