مقالات

الدفاتر العتيقة للولاية الجديدة

ذات صباح من عام ١٩٧٨، كان الداخلون إلى قصر الرئاسة في بعبدا، أثناء ولاية الرئيس #الياس سركيس يسمعون أصواتاً وضجيجاً صادرة من صالة الاستقبال التي كان ينتظر فيها الزائرون قُبيل دخولهم إلى مكتب الرئيس. وهرعتُ إلى تلك الصالة فبدا أمامي مشهدٌ لعله لا يحصل في القصور الرئاسية إلا في حالات الثورات والانقلابات. وجدتُ قائد الجيش فكتور خوري ومدير المخابرات جوني عبدو يقومان بتحطيم المقاعد في صالة الاستقبال، الواحد تلو الآخر، وأفراد الحرس الجمهوري يحضرون المشهد دون أن يحركوا ساكناً لأن رئيسيهما هما اللذان يقومان بالتحطيم. وتوجهتُ فوراً نحو مدير المخابرات وهو يرفع أحد المقاعد الباقية لتحطيمها وقلت له: ماذا تفعلان؟ فأجاب بانفعال: “ربما بهذه الطريقة يقبل بأن يغيّر مقاعد الصالون” وكان يقصد بذلك الرئيس الياس سركيس.

كانت تلك “انتفاضة” خفيفة من داخل البيت قام بها عسكريان كبيران وفيان لالياس سركيس، من باب الضغط الحبي عليه ليقبل بتغيير مقاعد صالة الاستقبال. وفعلا ذلك لأن المقاعد الموجودة كانت على درجة من السوء بحيث أنها تتمايل تحت الجالسين عليها.

أذكر هذه الحادثة مع غيرها، كوني عشتها يومذاك في رفقة التعاون مع رجل كبير ظلمته الأقدار بعدما كُتب عليه أن يدير الأزمة كما قال، وكان انتُخب من أجل حلّها، عندما تبيّن له بخاصة بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في ١٩ تشرين الثاني ١٩٧٧ أن حلّ الأزمة الذي كان رُسم في مؤتمري الرياض والقاهرة عام ١٩٧٦ المُخصصين آنذاك للبحث في حلّ ما كان يُعرف بـ”الأزمة اللبنانية” لن يحصل. لذا ارتسم إذذاك مشهدٌ عربي جديد قضى بإخراج مصر من الجامعة العربية، ثم خروج الجامعة العربية إلى تونس، مع التبدل الذي طرأ فيما بعد على قوات الردع العربية، واستئثار سوريا بهذه القوات بعدما أصبحت طرفاً في البحث عن الحلول. فطوى الياس سركيس عهده كله ( 1976 – 1982 ) في الحروب التي أرهقته ثم تسببت له بالمرض النادر الذي قضى عليه في حزيران ١٩٨٥ وهو في الواحدة والستين من عمره.

ولكن ما يلفت في سيرة هذا الرجل أنه بعد واحدٍ وأربعين عاماً من مغادرته الرئاسة، لا يزال حاضراً بقوة في ضمائر اللبنانيين وهم يبحثون هذه الأيام عن رئيس بمواصفاته، التي لم تكن ولن تكون سوى التجرّد والكفاءة وحسن التقدير والتدبير. لأن إنجازه الأكبر كان شخصه في زمن عدم القدرة على الإنجازات بسبب أعمال القتال والدمار. في ما عدا ما يعترف له اللبنانيون بالفضل، وهو الإقدام على تحقيق مخزون للذهب، لعله السند الأقوى اليوم للأزمات المتنوعة ومن بينها أزمة فقدان الثقة.

ولعل من يجاريه في هذا الحضور هو العميد ريمون أده الذي كان يكبره سناً وتوفي بعده عام ٢٠٠٠ عن سبعة وثمانين عاماً والذي تواجه معه في الانتخابات الرئاسية عام ١٩٧٦ رغم علمه مسبقاً بعدم الفوز، تماماً كما فعل في تموز ١٩٥٨ حين ترشح ضد فؤاد شهاب، وردّ يومذاك على رئيس المجلس صبري حمادة الذي وجّه إليه اللّوم لترشحه ضدّ شخصٍ صبّ عليه الإجماع الداخلي والخارجي فأجابه: “أنا أريد أن أبرهن أننا في بلدٍ ديمقراطي، ونمارس اللعبة الديموقراطية”. وانضمّ بعد ذلك إلى الحكومة الرُباعية التي تألفت في تشرين الأول من العام نفسه بعد فشل الحكومة الأولى، وذلك مع رشيد كرامي وحسين العويني وبيار الجميل.
بعد ذلك تحوّل الرجلان إلى طرفي نقيض، وبخاصةٍ لدى إحدى المعارك السياسية التي خاضها ريمون إده ضد “الشهابية” إثر خروجه من الحكومة الرباعية ومناصبته الخصومة لما كان يُعرف يومذاك بممارسات المكتب الثاني، بالرغم من أنه كان من حيث العديد من المواصفات المشتركة، من أكثر المؤهلين للتعاون مع الرئيس فؤاد شهاب، ولكن خصومته له فيما بعد بلغت حدّ تشبيه “الشهابية” بأنها تساوي أخطار الصهيونية والشيوعية على لبنان. ريمون إده خصص له الكاتب نقولا ناصيف كتاباً وافياً عن سيرته أسماه “جمهورية الضمير” بعد سنتين من وفاته، عن حياة رجل حرّك الكثير وأنجز الكثير وما زال حاضراً رغم انتفاء وراثـته.

الضميران قضيا، واحدٌ من ثقل الهموم وهو الياس سركيس الذي لو كان جاء في غير الزمن الذي جاء فيه، لكان على الأقل تابع الإنجازات الشهابية. والثاني قضى في المنفى بعدما اضطُر إلى مغادرة لبنان إثر محاولات الاعتداء عليه بالقتل.

يسترجع العديد من اللبنانيين ذكراهما هذه الأيام، كمن يعود وفق المثل اللبناني الشائع إلى دفاتر والده العتيقة. لأنه ليس في الدفاتر الحالية بين بعض الأسماء المتداولة ما يُشفي الغليل، وبخاصةٍ في حالة القبض السياسي على القرار الذي كان السبب الأساسي وراء انحسار الثقة العربية والدولية بلبنان.

ولعلّ أبناء الأجيال التي نشأَت بعد الحروب يجهلون أن مسألة ما وصفه إيمانويل ماكرون بالطبقة السياسية سبقه إليها موفدون غربيون في سنوات الحروب لمحاولة إيجاد حلولٍ لوقف القتال. وكان أول من قسا على أفراد ما صار يُسمّى بالطبقة السياسية موريس كوف دو مورفيل رئيس وزراء فرنسا السابق أيام الجنرال شارل ديغول. وكان الدبلوماسي الأميركي دين براون، موفد وزير الخارجية الأميركية هنري كسنجر إلى لبنان مطلع صيف ١٩٧٦، قد وصفَ السياسيين اللبنانيين بـ”المتحجرين”. وبعد ذلك ببضعة أشهر نشرت جريدة “النهار” مذكرة بتاريخ ٣ كانون الأول ١٩٧٦ واردة من الخارجية الأميركية إلى الخارجية الفرنسية تدعو إلى وجوب إنهاء عهد “أمراء السياسة في لبنان”. وكان قد سبق لجريدة نيويورك تايمز أن وصفت اجتماع القادة في جينيف ولوزان عامي ١٩٨٣ و١٩٨٤ باجتماع “الرؤوس البيضاء” نسبة إلى الشخصيات السياسية المتقدمة في السن ذات الرؤوس البيضاء.

لكن هنا تجدر الملاحظة أن الوراثة السياسية في لبنان ليست شراً كلّها، في بلدٍ لم تفعل فيه الأحزاب السياسية المنظمة فعلها المُفترض، وذلك على طول تاريخه السياسي كما يُفترض في البلدان ذات الأنظمة البرلمانية. إذ أنها أحزاب دارت وما زالت تدور حول الأشخاص. فهنالك ورثاء نجحوا وأنجزوا انطلاقاً من الإرث الذي حملوه، وآخرون لم يطوّروا ذلك الإرث. ولا بد هنا من الذكر أن الصديق الراحل سمير فرنجية، ابن أحد ألمع الشخصيات الاستقلالية حميد فرنجية رجل تحقيق الجلاء عن لبنان، كان نموذجاً بارزاً للوريث الذي أنجز وأعطى الوراثة مفهوماً حديثاً يتلاءم مع التطورات والأحداث. كما أنه في مجال الوراثة السياسية، فإن وليد جنبلاط ليس معروفاً فقط بوراثته الزعامة الجنبلاطية الدرزية، بل إنه مثل والده كمال جنبلاط، عُرف بثقافته الواسعة، وبشغفه في الاطلاع على كلّ جديد في مجالات الفكر وتطوّر الأوضاع العالمية والعلاقات الدولية. وهو الوحيد الذي حاول ويُحاول أن يفتح أبواباً جديدة وأسماء جديدة أمام انسداد باب الرئاسة الأولى، بعيداً عن قسوة الجمود السياسي والفئوي الذي يميّز هذا الموضوع.

والسؤال الآن هو: كيف يصل الكفوؤن والاختصاصيون الذين حملوا شهاداتهم من أرقى الجامعات في لبنان والخارج، وليس بمستطاعهم لا أن يترشحوا للنيابة أو لأحد المراكز الإدارية الكُبرى خارج سلّة الحصص. فالحُكم في لبنان بات سلّة تُوزّع على أصحاب الحلّ والربط. وسط ضياع برلماني صارخ، ولكن أيضاً ويا للمفارقة العجيبة، وسط ضجيجٍ إعلامي لافت، هو الوحيد الباقي في المشهد السياسي ليقوم بمهمات ما صار يُعرف بكشف الفضائح. وذلك دون أن يتحرّك المعنيون إزاء ما يُنسب إليهم من تجاوزات وفضائح. لأن الفضيحة هي هنا: الشاشات ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تُسمي المسؤولين بأسمائهم، وتُسمي بعض القضاء بأسمائه، وذلك دون أن يتحرك أحد أو دون أن يعبأ أحد من المعنيين بالأمر.

وقد كان مُلفتاً ولا يزال دخول القضاء الفرنسي على خط المحاسبات وإحالة أحد المصرفيين اللبنانيين إلى القضاء الفرنسي. في الوقت الذي لم نشهد فيه القضاء اللبناني يُمارس المحاسبة إيّاها في ما عدا بعض التحركات القضائية التي بسبب الأسلوب الذي اعتمدته، غيّبت جوهر الموضوع. والسبب معروف وواضح: وهو وضع اليد السياسية على القضاء، ابتداءً من احتجاز مرسوم التشكيلات القضائية في أثناء ولاية الرئاسة السابقة، وتلاعب بعض وزرائها بالمرسوم إلى حد قسمته، حيث نام أشهراً في الأدراج قبل أن يصل إلى الدرج الأسمى في الرئاسة حيث نام ولا يزال.

جميع المؤسـسات في الدولة خضعت للسياسة ولمصالحها وما زالت. كان القضاء اللبناني على رُقي يُنافس أنظمة دول الحق. والأمثلة عن الكبار عديدة. يأسف بمرارة كبيرة جيل من نشأَ في عهد هؤلاء الكبار، في الجامعات والتدرّج والتقاضي، كيف أن المصالح السياسية لأفراد تلك الطبقة ضربت القضاء، وهو كان ولا يزال العمود الفقري في دولة الحق “L’Etat de droit” التي تُختصر بأنها انصياع الدولة له “C’est la soumission de l’Etat au droit”. فكم صرنا بعيدين عن هذا المفهوم، في زمن المحاصصة التي وصلت إلى القضاء وضربت عمل المؤسـسات كلّها. ولكن مع الأمل بأن يفتح الرئيس الجديد تلك الدفاتر القديمة لكبارٍ من القدماء.

المصدر
داود الصايغ - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى