إقتصادمقالات

بالأسماء والتفاصيل: هدر المال العام من وزراء الاتصالات ومستشاريهم ومديري “تاتش”

لطالما ترددت نكتة هزلية بين اللبنانيين عن وجود شبهة عمولات غير شرعية في العقود المختلفة التي تبرمها الوزارات والمؤسسات العامة. الدعابة تروي عن لقاء افتراضي لثلاثة وزراء من جنسيات مختلفة في لبنان، باستضافة نظيرهم اللبناني، وجميعهم يتباهون بشطارتهم في الإفادة الشخصية من المال العام، يقول الأول للآخرين اشتريت مبنى لوزارتي كلف الدولة 50 مليون دولار بينما الكلفة الحقيقية هي 30 مليون دولار، أما الثاني فيروي أن وزارته أقامت نفقاً كلف الدولة 100 مليون دولار بينما كلفته الحقيقية كانت 60 مليون دولار، فيقول لهم مضيفهم اللبناني انظروا الى هذا الجسر الضخم لقد كلف الدولة 150 مليون دولار لتشييده، وقبل أن يكمل قاطعه الوزيران الآخران بالقول أين الجسر، لا نرى شيئاً؟ وجواب الوزير اللبناني كان Exactly!

هذا تماماً ما خلص إليه تقرير ديوان المحاسبة عن استئجار مبنى قصابيان وشراء مبنى آخر في وسط بيروت من وزارة الاتصالات ولحساب شركة تاتش/ميك2 التي تملكها الدولة، إذ لم يُستخدم المبنى الأول إطلاقاً بالرغم من دفع مبلغ يناهز 10 ملايين دولار لقاء استئجاره، ولم تُنقل ملكية البناء الثاني أو حتى توضع إشارة عقارية على أنه مبيع بالرغم من دفع عشرات ملايين الدولارات حتى تاريخه من خلال عقد بيع تقدّر قيمة الأموال المهدورة فيه بأكثر من 50 مليون دولار. كل ذلك ورد في مضمون التقرير الخاص لديوان المحاسبة رقم 3/2023 الصادر في تاريخ 8/3/2023.

يروي تقرير الديوان بالتفاصيل كيفية إبرام عقد الإيجار لمبنى قصابيان من جهة، والإيجار ثم البيع لاحقاً لمبنى وسط بيروت من جهة أخرى، ويُوثّق بالتسلسل وبالأسماء كيفية قيام المسؤولين في شركة تاتش ولجنة إشراف المالك OSB في الوزارة ووزراء الاتصالات بهدر عشرات ملايين الدولارات من خلال إبرام هذين العقدين.

لعدم إغراق القارئ في تفاصيل الأرقام وتسلسل إتمام الصفقتين، سنعرض أهم المفاصل الواردة في التقرير.

في ما يتعلق باستئجار مبنى قصابيان وبعد تبيان لوزارة الاتصالات عدم الجدوى من إبرام العقد، وبصورة مفاجئة، بتاريخ 7/9/2012، أرسل أنطوان حايك من لجنة إشراف المالك، وهو الممثل الشخصي للوزير نقولا صحناوي وكبير مستشاريه، رسالة عبر البريد الإلكتروني من حسابه الشخصي إلى حساب السيد كلود باسيل (المدير العام لتاتش/ميك 2) المسوّدة النهائية لعقد إيجار مبنى قصابيان طالباً منه السير بالاتفاقية وشروطها مجدّداً. هذه المراسلة إنما تكشف مدى انخراط أنطوان حايك شخصياً في التفاوض على العقد، ومبادرته لإنجازه، بدلاً من شركة ميك 2 التي كانت تراجعت رسمياً قبل ذلك عن المطالبة بعقد هذه الصفقة كما يتحصل من كتابها المؤرخ في 22/5/2012. ويلحظ أن هذه المراسلة صدرت عن الحساب الإلكتروني الخاص بأنطوان الحايك، وهي تختلف عن المراسلات الرسمية اللاحقة، حيث بدت شركة ميك2 بشخص رئيس مجلس إدارتها السيد كلود باسيل وكأنها هي التي تبادر لإنجاز العقد.

خلال أقل من 20 دقيقة من تلقيه الرسالة الإلكترونية من حايك أرسل كلود باسيل مسوّدة عقد الإيجار إلى محامي الشركة عماد حمدان طالباً التصرف الفوري، واصفاً الموضوع بالمستعجل جداً، ومؤكداً أنه يجب أن نوقع ونبدأ العمل. ويلحظ ديوان المحاسبة انتقال كلود باسيل من تراجعه عن عقد الصفقة لانتفاء الغاية منها، إلى اعتبار إبرامها أمراً مستعجلاً لا يقبل الانتظار.

يشدد تقرير الديوان على أن ما تظهره الرسائل الإلكترونية المتبادلة السابقة بين السيدين أنطوان حايك وكلود باسيل الحاصلة في (7/9/2012) إنما يثبت اختلاف المراسلات الرسمية عن المراسلات غير الرسمية، بما يؤكد، وفقاً لما يستنتج الديوان، وجود تنسيق خفيّ وغير معلن بين الرجلين بشأن هذه الصفقة.

بتاريخ 14/9/2012، وافقت لجنة إشراف المالك بشخص أنطوان حايك نفسه على عقد الإيجار. وبتكليف من رئيس مجلس الإدارة كلود باسيل، وقع عقد الإيجار وائل أيوب (وهو ممثل حركة أمل في شركة تاتش) وشربل قرداحي (ممثل التيار العوني في شركة تاتش، وكان يعمل في الوقت عينه مستشاراً لرئيس الجمهورية السابق ميشال عون)، والاثنان هما عضوان في مجلس إدارة الشركة. يخلص تقرير الديوان الى تعداد الشوائب والمخالفات الكثيرة لعقد الإيجار ويوثّق المسؤوليات، إذ إن ما دُفع من المال العام على عقد إيجار مبنى قصابيان يعادل مجموعه 10.344.398 دولاراً، وكلها من دون أي منفعة مقابلة، وفقاً لما ورد حرفياً في تقرير الديوان.

كذلك يلفت تقرير ديوان المحاسبة الى أن النيابة العامة المالية ادّعت لاحقاً بتاريخ 24/9/2020 بجرمي هدر المال العام وسوء إدارته في قضية إيجار مبنى قصابيان على كل من وائل أيوب وشربل قرداحي من شركة ميك2 موقعي العقد، ثم عادت وقدمت ادعاءً إضافياً على كلود باسيل سنداً للمواد 359 و360 و363 من قانون العقوبات. وفي 3/3/2022 أصدر قاضي التحقيق في بيروت أسعد بيرم قراراً منع فيه المحاكمة عن الأشخاص المدعى عليهم وهم أيوب وقرداحي وباسيل على اعتبار أن قرار الاستئجار أو عدمه يعود لوزارة الاتصالات؟ بيد أن القاضي اعتبر أن صلاحية ملاحقة وزيري الاتصالات نقولا صحناوي وبطرس حرب تعود للمجلس النيابي لا للقضاء العدلي. وبناءً على ذلك، أحال نسخة عن الملف إلى مجلس النواب لاتخاذ القرار المناسب بشأن ملاحقتهما من عدمه بجرم هدر المال العام الناتج عن دفع مبلغ يفوق 10 ملايين دولار من الخزينة كبدلات إيجار مبنى لم يتم إشغاله.

وإذ استأنفت المحامية العامة المالية القاضية فاتن عيسى قرار قاضي التحقيق في اليوم عينه، واستأنفت الدولة اللبنانية ممثلة بهيئة القضايا هذا القرار، فإن الهيئة الاتهامية عادت وصدّقت القرار بتاريخ 9/6/2022.

تبعاً لإحالة ملف مبنى قصابيان من النيابة العامة التمييزية إلى مجلس النواب، وقع 26 نائباً عريضة اتهام بحق الوزيرين الصحناوي وحرب، إلى جانب الوزير جمال الجراح على خلفية وقائع أخرى وردت في إحالة أخرى صادرة عن النيابة العامة المالية، وفي تقرير ديوان المحاسبة بتاريخ 5/4/2022 بشأن قطاع الاتصالات.

في المحصلة، من الواضح أن تقرير ديوان المحاسبة يضع المسؤولية المباشرة على عاتق الوزير نقولا صحناوي وممثله الشخصي في لجنة الإشراف أنطوان حايك ومديري شركة تاتش كلود باسيل ووائل أيوب وشربل قرداحي، أما الوزير بطرس حرب فتقع عليه مسؤولية عدم فعالية الإجراءات التي اتخذها لاحقاً للحد من الخسائر ومحاسبة المسؤولين عن الصفقة.

أما في موضوع مبنى وسط بيروت فيتبيّن للديوان أن الوزير جمال الجراح يتحمّل مسؤولية إبرام عقد إيجار لصالح شركة تاتش، يشوبه هدر كبير في المال العام ومخالفات إدارية وفنية جسيمة، ومع وصول الوزير محمد شقير الى وزارة الاتصالات، وبدل العمل على حل الموضوع لمصلحة المنفعة العامة وخزينة الدولة، أبرم عقد شراء لمبنى وسط بيروت بمبالغ تفوق كثيراً سعر السوق في حينه. ويخلص تقرير ديوان المحاسبة الى أن المبالغ التي يجدر استردادها أو التدقيق في مدى توجبها هي بقيمة تفوق الـ50 مليون دولار عن الصفقات المبرمة لاستئجار ولاحقاً شراء مبنى وسط بيروت.

أمام ما تقدّم، يبقى السؤال عالقاً في ذهن المواطنين: إذا منع القضاء العدلي المحاكمة عن المستشارين والمديرين لارتكاباتهم الموثقة في تقرير الديوان لكون المسؤولية تقع على وزارة الاتصالات وفقاً للقاضي أسعد بيرم، فيما صلاحية محاسبة الوزراء تعود للمجلس النيابي لا للقضاء العدلي وفقاً للقاضي بيرم أيضاً، فهل سيقوم المجلس النيابي فعلاً بالمحاسبة، أم إن التسوية والنسيان وعفا الله عمّا مضى هما سِمات المحاسبة في لبنان، وهل توقف دور الديوان هنا أم سيستكمل ما بدأه عير قرارات قضائية؟ الباحثة الدكتورة جوديت التيني تؤكد أهمية التقرير لأنه يمكن أن يكون بداية لصدور قرارات قضائية من ديوان المحاسبة. والغرفة المختصة لإصدار القرارات القضائية هي اليوم الغرفة التي يرأسها القاضي عبد الرضى ناصر نفسه. وأوضحت أن “أهم ما يعود لهذه القرارات القضائية أن تقضي به هو الحكم بغرامات وسندات تحصيل بحق كل من تتثبّت الغرفة من ارتكابه أعمال هدر للمال العام من الوزراء والموظفين. وتقع سندات التحصيل على الأموال الخاصة لهؤلاء الأشخاص وبمقدار ما تحمّلته الخزينة العامة بسبب أعمالهم، وهكذا يتم استرداد الأموال المهدورة”.

المصدر
سلوى بعلبكي- النهار

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى