مقالات

الحياة بعد موت المصارف

ما أسوأ من الأزمة المفتعلة التي يجري تنفيذها في لبنان منذ أربع سنوات سوى أنّ الحلول كانت دائماً موجودة وممكنة لكن الكارتيل المجرم إختار خراب البلد وبؤس الناس على ان يقبل بالمحاسبة والرحيل.

لبنان بلد مُقَرصَن وشعبه مخطوف ومحتجز فلا تُطَبّق فيه قواعد المنطق والقانون والتفكير السليم. مئات المليارات من الدولارات صُرفت ومئات المليارات سُرقت خلال آخر ثلاثة عقود، والنتيجة هي محطة إنتظار كبيرة للهجرة بدون أيّ خدمات أساسية من كهرباء وماء، ونقل عام، ولا خدمات ضرورية كالطبابة والتعليم والأمان الإجتماعي.

منذ إنكشاف الأزمة في ١٧ تشرين ٢٠١٩ كان يجب المبادرة فوراً الى إتخاذ خطوات سريعة وآنية لإحتواء الوضع قبل إعادة فتح البلد والأسواق في اليوم التالي لبدء الإحتجاجات. لكن يبدو أن المنظومة بجميع فروعها كانت قد حضّرت نفسها وجماعتها لساعة الصفر فحوّلت أموالها الى الخارج وسحبت الدولار الكاش “بالكراتين” وأصبح كلّ شيء جاهزاً لمسرحيّة إعلان الإفلاس الكبير بينما مصرف لبنان كان لايزال لديه أكثر من ثلاثين مليار دولار موجودات يمكن التصرف بها (وليس إحتياطي).

أمّا بعد أربع سنوات من التخبّط العبثي فيتبيّن لنا أن قسماً كبيراً من شقاء المواطنين وإذلالهم بجميع الطرق وخصوصاً أمام أبواب المصارف كان يمكن تفاديه، وتدمير الإقتصاد والمجتمع لم يكن حتميّاً ولا قدراً لا يمكن تفاديه. لكنّ جماعة المصرفيين وشركاءهم من السياسيين مازالوا يحاولون، بجميع الطرق المتاحة، وحتى هذه الساعة، البقاء داخل اللعبة والحفاظ على قدرة تفاوضية عوض الاعتراف بالجريمة وبأن المصارف أصبحت “متوقفة عن الدفع” بمجرّد عدم تلبيتها لطلبات الزبائن بالسحب والتحويل من حساباتهم، كما أنّ مصرف الدولة المركزي مفلس ومنهوب وقد أخفى خسائره تحت سجّادة “الموجودات الأخرى” لسنوات.

لم تكتفِ المصارف بهذا القدر من التخريب للإقتصاد والمجتمع، بل تستمر حتى الآن بتجنيد جزء كبير من الإعلام والمحطات التلفزيونية والإعلاميين والخبراء والسياسيين للدفاع عنها وعن مصالحها وتسويق “سرديّتها” لما حصل ولما يجب أن يكون، لتبقى هي نفسها متحكمة بالبلد والناس. لكن ‏الحقيقة التي غفلت عنها المصارف اللبنانية وأصحابها ومستشاروها، هي أنها إنتهت كمؤسسات وكعلامات تجاريّة صُرفت عليها ملايين الدولارات، وأصبحت ماركات سامّة عندما فرّطت بثقة المودعين والأسواق.

من ناحية اخرى، كانت ‏المصارف اللبنانية تعلم ان رساميلها هي “رسم دخول” الى طاولة البونزي الكبير الذي تمّ إخفاؤه بعناية عن الجمهور، لكنّ العارفين بخفايا اللعبة كانوا جميعاً يعلمون. أمّا الأرباح الفاحشة التي كانت تجنيها المصارف بالليرة فكانت تُبدّل بالدولارات الحقيقية للمودعين وتُحوّل الى حسابات أصحاب المصارف والنافذين في الخارج. هذه المصارف الزومبي اختارت أن تخدع المودعين وتراهن بمدخراتهم ثم أخذتهم رهائن وما زالت تقاوم الحلول المنطقية والقانونية مباشرةً أو عبر زبانيتها.

خريطة الخروج من الحفرة

من هنا يتبيّن لنا ألا طريق للخلاص من ابتزاز المصارف وعنجهيّتها والخروج من الحفرة سوى بخطّة شاملة تجمع الرؤية الاقتصادية الى العدالة في المحاسبة لمن تسبب وإستفاد من هذه الكارثة ومن دون أن نتقاعس عن ضرورة إنقاذ المواطنين الشرفاء الذي وقعوا ضحيّة الخداع والأزمة المفتعلة. النقاط التالية هي خارطة طريق تبدأ بالإقرار أن هناك نظاماً وتركيبة إنتهيا، وأنّ هناك وطناً وشعباً يجب أن يحيا بكرامة وفي ظلّ دولة حديثة تحترم القانون وتُطبقه على الجميع.

١- إلغاء السريّة المصرفيّة بالكامل وتحديث وتطوير قانون النقد والتسليف ومعالجة الثغرات التي سمحت للبنك المركزي والمصارف اللبنانية بالتحايل على القوانين والقيام بممارسات كان لها الدور الرئيسي في التسبب بالأزمة. بالإضافة الى تحديث القوانين وتطويرها ونظراً لحالة التخبّط والتجاذبات التي تعطّل عمل وفاعليّة القضاء اللبناني ندعو الى إنشاء “محكمة ماليّة خاصة ومختلطة” يُعيّن فيها قضاة لبنانيون لا غبار ولا ظِلال على عِلمِهم وعَمَلهم وتُطَعّم بقضاة ومُحققين من دول لديها خبرة في التعامل مع أزمات مشابهة والتشدد في تنفيذ القوانين مثل أيسلندا وسنغافورة وسويسرا أو غيرها من الدول.

۲- إنشاء مصرف مركزي جديد بالكامل غير مرتبط بالتركيبة المصالحيّة القديمة والأفضل أيضاً إستقدام حاكم مصرف مركزي أجنبي لديه الخبرة الكافية وثقة الأسواق الماليّة والمؤسسات الدوليّة والشركات العالميّة. يمكن للحاكم الأجنبي ان ينجز مهمة إعادة تكوين البنك المركزي بثلاث سنوات او خلال ولاية كاملة من ست سنوات قبل أن يعاد تعيين لبناني في هذا المنصب “الحساس”. من ناحية أُخرى، على الدولة أن تعيد رسملة مصرفها المركزي وتتعهد بدفع ديونه المُحقة فقط وذلك بعد إسترجاع أموال الهندسات والقروض المدعومة والهبات المعطاة للمصارف والشركات والقطاعات دون قيام البنك المركزي بالمقابل بإستملاك حصص في هذه المصارف او الكيانات؛ وهناك نماذج عديدة على حصول هذا النوع من الممارسات خصوصاً في عمليات إنقاذ مصارف او دعم مجاني لقطاعات من مثل “دعم الإنتاج الفنّي” أو الشركات الناشئة.

۳- التفاوض مع مصارف عالميّة وعربيّة رائدة لفتح فروع لها في لبنان في أسرع وقت ممكن وذلك بهدف تأمين الخدمات المصرفية المحترفة للشركات والمواطنين وقطع الطريق على الإبتزاز التي تمارسه بنوك الزومبي اللبنانية. تكون فروع المصارف الأجنبية خاضعة لقوانين بلدانها ومراقبة مصارفها المركزية خلال فترة إنتقاليّة يتم خلالها إعادة تكوين مصرف مركزي لبناني جديد وتحديث القوانين الناظمة لعمله وعمل المصارف والأسواق المالية. يمكن لهذه المصارف الأجنبية ان تستحوذ على مصارف موجودة بأصولها ومطلوباته وتوظّف خبرات لبنانية محلية بعد ان يتم التحقق من عدم تورط هؤلاء الأشخاص في الممارسات المصرفية الخاطئة التي حصلت في الماضي.

٤- في موازاة إعادة إطلاق الخدمات المصرفية عبر فروع مصارف أجنبية؛ يجب أن يصار الى تدقيق جنائي ومحاسبي شامل في حسابات المصارف الموجودة وذلك لهدفين أساسيين: (أ) فصل الودائع والحسابات النظيفة والشرعية التي يجب إعادتها الى أصحابها وبقيمتها الحقيقية عن الأموال المشبوهة والمتأتية عن أعمال الفساد وتبييض الأموال او تلك التي يعجز أصحابها من لبنانيين وأجانب عن تبيان مصادرها؛ وهذا الجزء من الودائع يجب ان يكون مصيره الشطب أو المصادرة من قِبَل الدولة اللبنانية وإستعمالها لتطوير خدمات عامة يفتقدها المجتمع. اما الهدف الثاني (ب) فهو تحديد المصارف اللبنانية التي تستطيع القيام بإلتزاماتها تجاه المودعين والدائنين وبالتالي يكون لديها خيارات الإندماج وإعادة الرسملة للعودة الى الأسواق بعد محاسبة كل من تثبت عليه إرتكابات بينما تتم تصفية المصارف الأخرى وملاحقة مساهميها ومديريها التنفيذيين بثرواتهم الخاصّة حسب القوانين المرعية. أمّا الودائع الشرعية الموجودة في مصارف آيلة الى التصفية فتحوّل الى مصرف جديد يتم إنشاؤه وتملكه الدولة اللبنانية وتُحوّل اليه جميع الأصول والحسابات التي سوف تتم مصادرتها أو إستعادتها من المصارف المفلسة وأصحابها ومديريها في لبنان والخارج.

٥- تضمن الدولة اللبنانية وتُدير عمليّة إعادة الودائع المشروعة لأصحابها خلال فترة خمس سنوات كحدّ أقصى مع إعطاء هؤلاء المودعين خيار الإستثمار الطوعي بنسبة محددة من ودائعهم في أسهم الشركات الجديدة المختلطة التي سوف تُدرج في سوق بيروت الماليّة وذلك بالقيمة الإسميّة الحقيقية كما يجب أن تُراعي عمليّة إعادة الودائع أعمار المودعين وحاجاتهم. من ناحية أخرى، يجب أن تشمل عملية التدقيق في الودائع عملتها الأساسيّة عند فتح الحسابات ومصادرها وحركتها ونسبة الفوائد التي حصلت عليها.

‏٦- إستناداً الى نتائِج التدقيق الجنائي في حسابات المصارف وقيودها وحركتها يمكن للجهات المختصة (المحكمة المالية الخاصّة) ملاحقة الذين إستفادوا من فساد او إختلاس او رشوة أو إستغلال للوظيفة العمومية أو من عقود بالتراضي مع الدولة والمؤسسات العامة. كما يمكن ملاحقة الذين تثبت عليهم شبهات تببيض الأموال والتهرّب الضريبي وجرائم أخرى حتى لو كانت هذه الأموال قد خرجت من النظام المصرفي اللبناني وتحوّلت الى الخارج او الى عقارات ومقتنيات ثمينة (ذهب، ماس، مجوهرات، قطع فنيّة وسيارات رياضية ويخوت) الهدف منها إخفاء وتدوير الثروات المشبوهة. فيمكن للجهات المختصة الإدعاء على هؤلاء الأشخاص أو الكيانات وملاحقتهم في لبنان والخارج وطلب الحجز على ثرواتهم وأصولهم حيثما وجدت الى أن تتم إعادتها بالقانون او تبعاً لتسويات طَوعيّة تحترم المعايير المتبعة في الدول المتطورة التي طَبّقت مثل هذه الحلول بهدف منع عَودة المحسوبيّات وصرف النفوذ من النافذة.

٧ – بعد الانتهاء من التدقيق الجنائي وإعادة الهيكلة وبدء تنفيذ خطّة إعادة الودائع النظيفة العالقة في المصارف، يفتح الباب أمام نشوء مصارف لبنانية جديدة هدفها خدمة السوق المحلي والأسواق الخارجية وتقسم الى فئتين أساسيتين “مصارف تجارية أو مصارف تجزئة” (retail or commercial banks) و”مصارف إستثمار” (investment banks) مع التشدد في وضع شروط إنشاء هذه المصارف وممارستها لأعمالها. بالرغم من السياسات المتهورّة للقطاع المصرفي الحالي، يبقى قطاع الخدمات المصرفيّة أحدى القطاعات التي يجب تطويرها والتركيز عليها من ضمن خطة تطوير الإقتصاد اللبناني ليماشي حاجات العصر ومتطلّبات الأسواق العالمية. فيُصار الى تطعيم الخدمات المصرفية بالتكنولوجيات المالية (Fintech) ليتمكّن هذا القطاع من تطوير خدمات ماليّة ومصرفيّة وتطبيقات يمكن تسويقها على نطاق العالم لتسهيل عمليات الدفع وتسديد الفواتير وخدمات التجارة الإلكترونية إضافة الى العملات الرقمية.

٨ – انشاء سوق للأوراق المالية والأسهم في بيروت مع تطوير القوانين التنظيمية لنشاطها. الهدف من إنشاء هذه السوق هو إدراج الشركات العاملة ومن ضمنها المصارف وطرحها للجمهور لتمكين الشركات والمواطنين الافراد من الاستثمار في الشركات الوطنية. يدعم قيام هذه السوق مبدأ الشفافية في التعاملات وتوفير الفرصة لجميع المواطنين لتملّك أسهم في شركات عوض بقائها في حلقة مغلقة يسيطر عليها كارتيل مغلق من جماعة المال والسياسة. يدرج أيضاً في الأسواق المالية شركات جديدة مختلطة ما بين القطاعين العام والخاص على أن تقوم الدولة بالمساهمة بحصّتها من هذه الشركات عبر تقديمات عينية او إعطاء رُخَص وإمتيازات وتكون حصّة القطاع الخاص هي الاستثمار والتطوير لهذه الرُخص أو المنشآت او الأراضي على أن يتم إختيار مساهمي القطاع الخاص عبر مناقصات دوليّة (رغم تأكدنا أن هذا الأمر من أكبر الصعوبات في بلد مثل لبنان). وكمثال على هذه الشركات المختلطة هو قيام الدولة بتقديم قطعة أرض من الأملاك البحرية أو الجبلية وتقوم الشركة المختلطة بتطوير مشاريع سكنية وتجارية وسياحية على هذه الأرض على أن تكون الشركة مدرجة في سوق بيروت الماليّة لتمكين المواطنين والشركات من الإستثمار دون السماح لأي مستثمر او جهة او صندوق بإمتلاك ما يفوق حداً معيناً من الأسهم والسيطرة على الشركة. يمكن تعميم هذه الطريقة على رُخص للمواصلات وإنتاج الكهرباء ونقلها والطيران والمطارات والمرافئ والمرافق العامّة.

٩- تقوم الدولة اللبنانية بالتعاون مع الخبرات المحليّة والأجنبيّة بوضع مشروع رُؤية ٢٠٥٠ للإقتصاد اللبناني حيث تحدد الرؤية والأهداف وخارطة الطريق التي تمكننا من تحقيق هذه الأهداف وإيصال لبنان الى الدور الذي يجب أن يلعبه على صعيد المنطقة والعالم.

الحياة ما بعد موت المصارف السامّة ممكنة لا بل ستكون أفضل رغم التهويل والسرديّات المفبركة التي يتم النفخ فيها منذ سنوات وإستهلكت مئات ملايين الدولارات الإضافية، أمّا الهم الأكبر للبنان واللبنانيين فيبقى إنتظار حياة ما بعد المنظومة.

** خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي

المصدر
جان كلود سعادة - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى