الترسيم مع قبرص يترنّح
كل المعطيات الداخلية تؤكد أن ملف “ترسيم الحدود البحرية الغربية مع قبرص” قد سُحب من التداول، أو في الحد الأدنى جُمّدت مفاعيله في الوقت الراهن. تأتي هذه الخلاصة كنتيجة طبيعية للتباينات الداخلية اللبنانية، التي قاربت الملف إنطلاقاً من مصالح خاصة وليس بالإعتماد على قواعد تقنية وقانونية لا بدّ لها أن تحكم الملف.
غداة توقيع إتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، كان القرار على المستوى السياسي اللبناني في استكمال الترسيم البحري مع قبرص وتعديل الحدود بما يتناسب والخط 23 الذي جرى التوصل إليه مع العدو الإسرائيلي برعاية أميركية. بعد إنجاز الإتفاق بأيام، أعلن عن التوصل إلى “صيغة” لترسيم الحدود مع قبرص عقب زيارة لوفد قبرصي إلى بيروت، مع الإشارة إلى أن الجانبين اللبناني والقبرصي أنجزا إتفاقية لترسيم للحدود البحرية عام 2007 من دون أن يقرّها مجلس النواب ما جعلها ساقطة قانوناً. كان يفترض من بعد الإعلان أن يسلك الإتفاق طريقه إلى التنفيذ.
لكن المفاجأة أنه وقبل أكثر من شهر من اليوم، زار مسؤول لبناني كبير “لارنكا” واجتمع مع مسؤولين قبارصة. كان على جدول أعماله موضوع أساسي هو ملف الترسيم البحري مع الجزيرة. غير أن زيارة المسؤول اللبناني، كان لها أهداف أخرى، من بينها تجميد الإندفاعة اللبنانية الرسمية التي تولاّها كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير الأشغال في الحكومة ذاتها علي حمية، بناءً على استنتاجات أفادت في إمكانية توسيع لبنان لحدوده مع قبرص بما يزيد عن 2600 كلم مربعاً.
على هامش تلك الزيارة، إلتقى المسؤول اللبناني دبلوماسياً لبنانياً رفيعاً في السفارة اللبنانية في لارنكا، وأبلغه ضرورة العمل على إصلاح العلاقة مع الحكومة القبرصية، بحيث يسعى إلى سحب ملف ترسيم الحدود البحرية من التداول في شكله الحالي المقدم من الجانب اللبناني، وإبلاغ الجانب القبرصي تجميد البحث في الوقت الراهن ريثما يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جديدة. مثل هذا الفعل، أظهر للقبارصة أن الموقف اللبناني غير موحّد أو متناسق وثمة رأيان لبنانيان في مقاربة ملف ترسيم الحدود معها، وهو ما يمكّن القبارصة (أو يفتح لهم المجال) للمناورة.
عملياً، جاء التباين اللبناني الداخلي حول الموضوع نتاج عدة قراءات. تحدثت الأولى عن وجود فرصة للبنان في تحصيل كيلومترات إضافية من المساحات البحرية مع قبرص. بُنيت هذه الفكرة على خطأ في الترسيم إرتكبته حكومة فؤاد السنيورة عام 2007. في المقابل، كان ثمة من يتمسّك بدراسة أخرى تفيد أن لبنان حصّل على أقصى ما يمكن تأمينه من الترسيم مع قبرص. إنما واستناداً إلى حسابات “ترسيمية”، يظهر أن لبنان ونتيجة ذلك الخطأ، تقدم إلى داخل الحدود الإقتصادية للمياه القبرصية، فيما فتح الملف مجدداً في هذه الطريقة، قد يؤدي إلى خسارة لبنان مساحات إضافية من حدوده الطبيعية التي تقع في الجنوب الغربي.
غير أن كل ذلك لم يؤخذ به، إنما حاولت وزارة الأشغال حلّ الموضوع من خلال لجنة. بناءً عليه، بادر الوزير علي حمية إلى تأليف لجنة شُكلت خصيصاً لإجراء دراسة شاملة ووافية حول الحدود البحرية الغربية مع قبرص وتقديم اقتراحات وبنود عمل تحمل فكرة تعديل تلك الحدود بالتعاون بين الجانبين. وعلى مسافة عدة إجتماعات، توصلت اللجنة إلى خلاصة مفادها أن للبنان حقوقاً إضافية. وعلى الرغم من أن حمية الذي بدا مهتماً جداً في الملف، حرص في البداية على التواصل مع خبراء تقنيين وقانونيين لبنانيين يعملون على ملفات مشابهة في الخارج، وقد نال من قبل بعضهم مشورة كافية، ومن آخرين دراسات تقنية دقيقة.
غير أن اللافت أن كل تلك الإستشارات لم يؤخذ بها، ولم يجرِ إشراك أي من “الخبراء” الذين استُعين بهم في اللجنة، إنما اقتصر الحضور على أشخاص محددين لا يحملون صفة الخبراء في مجال الترسيم البحري أو المجال القانوني البحت، ما أدى إلى نزع “الصفة التقنية” عن اللجنة وتحوّيلها إلى لجنة سياسية. غير أنه في النتيجة، وضعت اللجنة دراسة تتماهى مع فكرة أن للبنان حقوقاً مسلوبة مع قبرص من الواجب استعادتها ورفعت الدراسة إلى مجلس الوزراء لإقرارها.
وقد اعتمد تقنياً على مبدأ “التناسب في طول الشواطئ” بين لبنان وقبرص كأحد الأسباب التي تمنح لبنان مساحات إضافية، وهو مبدأ لا يستوفي الشروط في الحالة القائمة بين البلدين، وفقاً لخبراء قانونيين وتقنيين مختصين في الترسيم البحري ، وقد أبلغ بعضهم رأيه بصورة مباشرة إلى الوزير حمية من خلال دراسة إعتمدت في مقاربتها على حالات مشابهة بين أكثر من دولة، بالاضافة إلى عرض المسألة من الناحيتين التقنية و القانونية، وإسقاطها على الإجتهادات القانونية الحديثة التي لا تدعم الموقف اللبناني، إنما قد يؤدي الأمر إلى نتائج عكسية بالاشارة إلى احتمال تقديم ذريعة إلى قبرص لنقض الطروحات اللبنانية ثم الذهاب إلى المحاكم الدولية وهو ما سيؤدي إلى تكبيد لبنان خسائر على المستوى القانوني والخط البحري هذا فضلاً عن تعطيل أي تلزيم بحري للبلوكات اللبنانية الواقعة على الحدود مع قبرص.
هذه الأسباب كلها، بالاضافة إلى أسباب تقنية أخرى لا وقت لشرحها الان، جعلت من أطراف لبنانية رسمية تتريث في الدفع بإتجاه إعادة فتح ملف الترسيم مع قبرص وذلك بعد اطلاعها على الأسباب الموجبة.