إستنزاف الاحتياطي المركزي والخطورة بغياب الثقة بالقطاع المصرفي
أظهرت ميزانيّة مصرف لبنان انخفاضاً في موجوداته الخارجيّة بمبلغٍ قدره 65.96 مليون د.أ. (0.46%) خلال النصف الثاني من شهر آذار 2023 إلى 14.41 مليار د.أ. (216.14 تريليون ل.ل.)، من 14.48 مليار د.أ. (217.13 ترليون ل.ل.) قبل فترة أسبوعين. عند تنقيص محفظة اليوروبوند اللبنانيّة التي يحملها مصرف لبنان، والبالغة قيمتها 5.03 مليارات د.أ. بحسب تصاريح مصرف لبنان السابقة، تصبح قيمة احتياطاته بالعملة الأجنبيّة 9.38 مليارات د.أ. (140.69 تريليون ل.ل.).
في سياقٍ آخر، تُبيِّن ميزانيّة مصرف لبنان زيادةً بنسبة 3.68% (647.04 مليون د.أ.) في قيمة احتياطاته من الذهب إلى 18.23 مليار د.أ. (273.40 تريليون ل.ل.) في ظلّ إرتفاع سعر الذهب على أثر توقّعات بأن يبقي الفدرالي الأميركي معدّلات الفوائد على حالها خلال اجتماعه المقبل في شهر أيّار.
أمّا على صعيدٍ سنويّ، فقد تراجعت قيمة الموجودات الخارجيّة لمصرف لبنان بنسبة 12.57% (2.07 مليار د.أ.) مقارنةً بالمستوى الذي كانت عليه في نهاية شهر آذار 2022، والبالغ حينها 16.48 مليار د.أ.
الفكرة الأساس من تكوين الاحتياطي لدى المصارف المركزية، بحسب رئيس مركز اشراق للدراسات الدكتور ايمن عمر هي مواجهة السحوبات النقدية المتزايدة وغير المتوقّعة من قبل المودعين لتوفير الثقة في الجهاز المصرفي وتفادي ما يُعرف بالهلع المصرفي (Bank Run) والذي يؤدي إلى إفلاس المصارف عبر التوقف عن ردّ ودائع الناس. ويعدّ الاحتياطي النقدي من أهم أدوات تمويل التزامات الدولة الخارجية ومنها تمويل عمليات الاستيراد والعجز في ميزان المدفوعات، وفي دفع الديون المستحقة بالعملة الأجنبية، وهو يعزز من ثقة الدائنين والمستثمرين الأجانب في الاقتصاد الوطني وفي إمكانية الوفاء بالتزامات الدولة المالية الخارجية، ويشجع في الحصول على تصنيفات ائتمانية عالية المرتبة من قبل الوكالات العالمية المتخصصة وبالتالي يساهم في توفير التمويل اللازم للدولة للقيام بالمشاريع العامة وتنشيط الاقتصاد. ويعتبر الاحتياطي صمّام أمان عند نشوء الأزمات ترتكز عليه الدول لمجابهة تداعياتها الاقتصادية على مختلف الصعد. وتستخدم بعض الدول احتياطاتها لتمويل قطاعات استراتيجية من أجل زيادة ناتجها المحلي ونموّها الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن المادة 69 من قانون النقد والتسليف حدّدت آلية تكوين احتياطات مصرف لبنان من الذهب والعملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية قيمة النقد اللبناني وهي: ” توازي 30% على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50% من قيمة النقد المصدّر، ولا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحددتين في الفقرة السابقة”، الا ان هناك تعميمين صادرين عن مصرف لبنان يشرحان هذه العملية، واحد متعلق باحتياطي الليرة اللبنانية وآخر مرتبط بالدولار. فالتعميم رقم 86 بتاريخ 20 أيلول2001 أوجب وفق مادّته الأولى على المصارف كافّة أن تودع لدى مصرف لبنان نسبة 15% من جميع أنواع الودائع مهما كانت طبيعتها التي تتلقّاها بالعملات الأجنبية. أما التعميم رقم 84 بتـاريخ 2 حزيـران 2001 فقد فرض في مادّته الثالثة على المصارف ” تكوين إحتياطي إلزامي نقدي لدى مصرف لبنان على مجموع الإلتزامات الصافية بالليرة اللبنانية الخاضعة للإحتياطي الإلزامي”.
علميًّا ليس هناك من نسبة معينة أو قيمة معينة يجب توفرّها لدى المصارف المركزية من الاحتياطي، إذ إن بعض الدول، بحسب الأستاذ الجامعي ايمن عمر، لا تلجأ إلى تكوين احتياطي نقدي لديها مثل المملكة المتحدة وأستراليا (نسبة الاحتياطي صفر %)، بل إن بعض الدول كالولايات المتحدة الأميركية تدفع للمصارف 0.5 % كتعويض لها عن هذا الاحتياطي الذي تمّ تجميده وخسارة مردود مالي لقاء تشغيله، أي أن نسبة الاحتياطي هي سالبة لديها.
وفي لبنان بحسب المادة 69 من قانون النقد والتسليف فإن الهدف الأساسي لتكوين الاحتياطي هو ضمان سلامة تغطية قيمة النقد اللبناني. وقد أظهر الانهيار المالي والاقتصادي، وفق عمر، فشل هذا الإجراء في تحقيق الأهداف المرجوّة منه إن لجهة الحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية أو لجهة ضمان ودائع الناس وردّها إليهم. وقد تمّ استخدام الاحتياطي خلال الأزمة في تمويل عمليات الاستيراد وبعض النفقات العامة ودفع رواتب موظفي القطاع العام فحسب.
إن خطورة الوضع النقدي اليوم ليست في استنزاف الاحتياطي الإلزامي من الدولارات، وإنما في غياب الثقة بالقطاع المصرفي ككل وبالتالي عدم القدرة على زيادة الودائع لديه واستخدامها لأهداف تمويل الاقتصاد وتنشيط الدورة الاقتصادي وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، وتاليًا زيادة الإيرادات الضريبية لتمويل خزينة الدولة ونفقاتها. ليس للاحتياطي أيّ خطوط حمراء يُمنع تخطّيها، الخطوط الحمراء تمّ تخطّيها منذ بدء حجز أموال المودعين وتهريب الدولارات إلى الخارج من قبل بعض المتنفّذين عند لوح بوادر الأزمة، وعند التوقّف عن إعلان دفع سندات اليوروبوندز، وعند استنزاف أكثر من 20 مليار دولار من الاحتياطي على عمليات الدعم التي استفاد منها جزء قليل من المتنفّذين.
وعليه، يعتمد مصرف لبنان حاليّا على توفير الدولارات لديه بالدرجة الأولى من السوق الموازية القائمة على التحويلات من الخارج التي تتخطى 9 مليار دولار ما بين تحويلات المغتربين، تحويلات إلى الأحزاب اللبنانية والمنظمات الفلسطينية والتحويلات إلى اللاجئين السوريين. حيث يقوم مصرف لبنان عبر أدواته من الصرّافين والمضاربين بلمّ جزء من الدولارات عبر عمليات مضاربة تتكرر باستمرار يشعل وقودها بعض تعاميم مصرف لبنان الفارغة من محتواها النقدي والاقتصادي.
وبالتالي، ما نشاهده حاليّا من استقرار نسبيّ في سعر صرف الليرة مقابل الدولار بسبب حلول شهر رمضان المبارك بالتزامن مع عيدي الفصح استدعى تهدئة الأوضاع، فالقرار في ذلك هو سياسيّ بامتياز. وقد تدخّل مصرف لبنان عبر منصّة صيرفة للمساعدة في تحقيق هذا الاستقرار عبر ضخّ مليار و41 مليون دولار منذ بداية رمضان وحتى الآن، حتى أنه في بعض الأيام كان يضخّ أكثر من 90 مليون دولار في اليوم، كما يقول عمر.
وعليه، لقد أُسقط بين يديّ مصرف لبنان القدرة في التأثير على السوق المالي عبر السياسة النقدية، التي لديه صلاحيّات التحكّم بها بحسب قانون النقد والتسليف. وإن تدّخل حاكم مصرف لبنان لم يعد يخضع، بحسب رئيس مركز اشراق، لاعتبارات ومتطلّبات الوضع النقدي والمالي في البلاد، وإنما يخضع لإملاءات سياسية.
ان ما يشاع عن أن خروج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من سدّة الحاكمية سواء عبر انتهاء ولايته أو محاكمته في الدعاوى الموجّهة إليه سيكون له تداعيات كارثيّة على الوضع النقدي هو مجافٍ للحقيقة، من وجهة نظر الأستاذ ايمن عمر، على اعتباره أننا اليوم في قلب الانهيار وفي عين العاصفة ولم يمنع وجوده في رئاسة الحاكميّة في منع هذا الانهيار أو حتى في التخفيف من حدّته.