مقالات خاصة

صرخة مغترب ..


بقلم د. وسيم بكراكي

بين واقع الشوق والحنين لتراب الوطن، ومع أزمة كورونا من جهة وغياب الدولة اللبنانية بكامل مكوناتها من جهة أخرى، وتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان إلى ما يشبه الإفلاس العام، فلا مصارف تعمل، ولا كهرباء ولا مياه ولا بنزين ولا دواء أو استشفاء، وبين الحنين إلى الوطن والحرقة عليه، يجد المغترب اللبناني نفسه في دوامة مؤلمة غريبة لم يعش مثلها قبل اليوم ولربما لم يعشها المواطن اللبناني منذ تأسيسه حتى اليوم.
عشرات لا بل الآلاف الحالات التي تصل إلى أسماعنا، بل ومئات منها ممن يتواصل معنا مباشرة وجميعها يتحدث عن نفس المأساة ونفس الألم والحزن والضيق والعوز ومحاولة السفر أو طلب العون لدواء مقطوع أو حالة مرضية لم يعد بالإمكان علاجها في لبنان بعد أن كان مقصد العرب أجمعين.
هناك من يتحدث عن الدواء المقطوع، وهناك من يتحدث عن الحليب الذي أصبح أكثر قيمة من الذهب الخالص، وهنالك أخبار انقطاع البنزين والمازوت والمياه ومتطلبات الحياة اليومية المختلفة مع حد أدنى للأجور أصبح لا يزيد عن 30 دولار شهريا ليصبح لبنان فعليا البلد الأكثر فقرا وعوزا بين مختلف دول العالم. هذا الشعب الذي لم يكن فيه بيت يخلو من موظفة “مساعدة” معاشها أصبح أضعاف معاش هذا اللبناني. هذا الشعب اللبناني الغني بالعلوم والشهادات، الشعب الذي أينما ذهبت به نزل واقفا على رجليه هو اليوم مجرد من أبسط الحقوق المدنية فلا هو حاصل على مدخراته ولا هو يعمل بما يكفيه قوت يومه…
الشعب الذي عمل طيلة حياته ليضع مدخرات حياته في أحد البنوك لتكفيه في ساعة الضيق والحشرة أو في أيام الكبر والشيخوخة هو اليوم يبكي على أطلال هذه الأموال الضائعة التي اختلسها زعيم هنا وهناك أو صرفت بدون علمه على مشاريع لا يعلم بها إلا قابضوا ثمنها من واسعي الذمة منعدمي الامانة والاخلاص.
ما يعانيه الشعب اللبناني في الداخل لا يختلف كثيرا عن المغترب الذي تلقى العديد من الصدمات المباشرة هو الآخر… كم من الاحباب نعرفهم وضعوا أموالهم في بنوك بلدهم إما لانعدام فرص وضعها في بنوك الدول التي يقيمون فيها أو لعدم الشعور بالأمان لوضعها في تلك الدول. وجميع هؤلاء خسروا للأسف تعب سنين من العمل الشاق والغربة التي ضاع تبعها فجأة.
هذا المغترب الذي كان وربما ما زال يرسل أقساط بيت اشتراه أيضا طمعا في شيخوخة مريحة في وطنه… هو اليوم يدفع ديون عقار انخفض سعره إلى النصف أو الثلث ربما. … ولكنه ما زال يدفع.
هو المغترب المتضرر حتى في زيارة وطنه التي أصبحت زيارته عبئا على أهله وعبئا على الوطن نفسه مع شح كل مستلزمات الحياة الممكنة. ولكن من تسول له نفسه بالنزول لضرورة تجده تحول إلى قاطرة لنقل الأدوية وكل ما يمكنه حمله مما يفتقده أهله هناك.
ما يؤلمني أكثر من كل ما ذكرت أننا كمغتربين وأتحدث عن نفسي كرئيس لجمعية اغترابية في تركيا أننا برغم كل ما سلف نحاول أقصى ما نستطيع لمساعدة أهلنا في لبنان ولكننا نصطدم في كل مرة بجدار الدولة التي حتى في غيابها تمنع الخير من أن يصل إلى اهله…
حاولنا أن نرسل حاويات للحليب ففوجئنا بعدم إمكانية ذلك. فلا مساعدات إنسانية ممكن أن تصل إلا إلى حضن الدولة مباشرة وهي توزع بمعرفتها (ان حصل ذلك)… فلا انت تستطيع أن توزع ولا أن تحدد من المستفيد.
نحاول يوميا أن نرسل الدواء من مال المساعدات أو المدفوع من أصحابه وأصبحت حقائب المسافرين ممتلئة بالأدوية ولكن أيضا لا مجال ولا طريق قانوني لإمكانية إرسال الأدوية كمساعدة برغم أننا جمعية رسمية في الدول التي نعيش فيها. لا وبل هناك جمعيات قائمة ومتعددة يمكن الإرسال اليها ولا يعترض ذلك إلا قوانين الدولة التي تمنع وصول هذه المساعدات…
ما جعلني اكتب هذه الأسطر هو حرقتي وحيرتي من كيفية المساعدة؟ هل المطلوب من الشعب اللبناني أن يتحول إلى مهربي أدوية وحليب اطفال وأدوية الحرارة؟ (من المساعدات وليس للأعمال التجارية طبعا)
افتحوا المجال لوصول المساعدات لأهلها… افتحوا المرافىء والمطار لمن يريد أن يرسل لأهله ما أمكنه من المساعدة؛ غذائية كانت أم علاجية. … ما دمتم غير قادرين على تأمين أبسط أمور الحياة دعوا المغترب يخفف من شدة هذه الأزمة برغم كل ما أصابنا من ضرر مشترك ما زال المغترب اللبناني ينبض بحب أهله فلا تحرموه وسيلة مساعدتهم. افتحوا المجال لمن يريد أن يرسل المساعدة. ضعوا القيود ولكن قيود تسهيل العملية لا تعقيدها.
نحن اليوم في أزمة حادة تتطلب تسهيل كل ما يمكنه أن يساعد.. هي صرخة مغترب… هي صرخة كل مغترب… فهل تجد لها آذانا صاغية…

الدكتور وسيم بكراكي

إختصاصي طب أطفال طبيب تركي لبناني رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية ( توليب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى