في وقت باتت فاتورة “كهرباء الدولة” همّاً جاثماً على قلوب اللبنانيين، مع رفع التعرفة لحدودها القصوى، وبقاء الخدمة في حدودها الدنيا، يبدو أن السياسات التي تسببت بانهيار القطاع، وفرضت “إصلاحات” قاسية على المواطن، وأبرزها التهرب من الجباية.. هذه السياسات الفاسدة مستمرة، لكن هذه المرة بتشريع من الوزير نفسه!
فها هو وزير الطاقة والمياه وليد فياض، يوافق على قرار مجلس إدارة كهرباء لبنان، تخفيض بدل الكهرباء، لقرابة 1500 منزل في لبنان، للعاملين في الشركة، مميزاً إياهم عن باقي موظفي القطاع العام، وعن بقية المواطنين. والوزير لم يكتفِ بالموافقة على المخالفة (المستند أدناه) فطلب ضمّ موظفي مديرية الاستثمار في وزارة الطاقة للقرار، فاتحاً الباب أمام شهية باقي موظفي الإدارات العامة لمعاملتهم بالمثل!
بخط يد الوزير
ويضرب قرار الوزير عرض الحائط المادة 75 من قانون الموازنة العامة الصادر عام 2001، الذي منع أي تخفيضات أو إعفاءات من هذا النوع. لكنّ أخطر ما في القرار، شموله مفوض الحكومة والمراقب الماليّ في الوزارة، في “رشوة علنية خطيرة تسقط عنهما صفة المراقبة لكهرباء لبنان”، وفق ما تجمع عليه مصادر متقاطعة لـ”المدن”.
فياض: “الخبرية ما بدها آينشتاين”!
وإضافة لإحالة الوزير بتاريخ 4 نيسان 2023 التي أضاءت عليها النائبة غادة أيوب منذ يومين، والتي يطلب فيها الوزير شمول جميع موظفي مديرية الاستثمار في وزارة الطاقة (53 موظفاً حسب الإحالة، بين موظف وعامل وأجير)، بالتخفيضات على قيمة بدل استهلاك الطاقة الكهربائية، علمت “المدن” من مصادر خاصة، أن تلك التخفيضات شملت كذلك مفوض الحكومة، والمراقب المالّي، فتواصلنا على الإثر مع الوزير للتأكد من صحة هذه المعلومات، الذي لم يتباهَ بقراره تخفيض بدل الكهرباء لجميع موظفي مديرية الاستثمار وحسب، بل كشف النقاب عن مخالفة أعظم.
ففي سياق تبريره للإحالة بتاريخ 4 نيسان، أوضح أنها أتت “للمساواة بين موظفي مديرية الاستثمار في الوزارة وقرابة 1500 موظف في مؤسسة كهرباء لبنان، شملتهم التخفيضات بقرار من مجلس إدارة كهرباء لبنان، كنت قد وافقتُ عليه”، منكراً أن يكون للقرار تبعات هدر في المال العام.
في السياق يقول: “شو بيجو 50 بيت نزيدن على 1000 أو 1500 بيت، وشو بيجي مبلغ 40 دولار مصروف مخفض عن كل بيت، الخبرية ما بدا آينشتاين يحسبا ليعرف إنو أثرا négligeable”.
لكن، وبحسبة بسيطة ووفق حسبة الوزير الآينشتاينية، فإن 1500 منزل، على فرض أن كل منزل يصرف كالآخر، 40 دولاراً غير مدفوعة، سيتجاوز الرقم 60 ألف دولار في الشهر، و720 ألف دولار في السنة. أما اذا احتسبنا 5000 آلاف منزل، بما أن القرار يشمل “قدماء مؤسسة كهرباء لبنان” كذلك، فحينها، سيصبح الرقم، 200 ألف دولار بالشهر، و 2 مليون و400 ألف دولار في العام الواحد، أثر négligeable، أو لا يذكر، برأي الوزير، في وزارة هي الأكثر حظوة بسلف الخزينة سنويا!
إحالة الوزير لشمول القرار موظفي مديرية الاستثمار
الموظفون: كلن يعني كلن!
هذا وحصلت “المدن” على صورة للمذكرة التنفيذية الصادرة عن مجلس الإدارة كهرباء لبنان بتاريخ 8 آذار 2023، التي طلبت من الوزير الموافقة على “تخفيض قيمة بدل استهلاك الطاقة للمستخدمين والأجراء والمتعاقدين في مؤسسة كهرباء لبنان”، وكذلك “لأعضاء مجلس الإدارة غير المتفرغين ومفوض الحكومة والمراقب المالي لدى المؤسسة طيلة ولايتهم والعمال والمستخدمين الحاليين والأجراء والمتعاقدين والقدامى المستفيدين من نظام الخدمات الاجتماعية الإضافية”. كما حصلت على نسخة من توقيع الوزير على القرار، يطلب فيه بخط اليد، ضم كذلك كهرباء قاديشا للاستفادة من التخفيضات!
ويضرب هذا القرار عرض الحائط، المادة رقم 75 من قانون الموازنة، الصادرة عام 2001 بكل المقاييس، والتي تنصّ على أنه “.. تلغى جميع الإعفاءات أو البدلات المخفضة للرسوم والبدلات وأية إعفاءات أو بدلات مخفضة أخرى مهما كان نوعها أو تسميتها أو طبيعتها وأياً كانت الجهة المستفيدة منها أو صفة المستفيد..”.
القراران اللذان تعتبرهما مصادر مطلعة مدخلاً علنياً للرشوة، أخطر ما فيهما، أنهما يطالان مفوض الحكومة والمراقب العام المالي، المكلفين سلطة رقابة على مؤسسة الكهرباء، والمحظورين من تقاضي منافع أيا كان نوعها. وهذا يتقاطع مع اعتقاد سائد بين موظفي مديرية الاستثمار أن “يكون القرار شمل جميع موظفي المديرية، للتمويه عن شموله مفوض الحكومة، على قاعدة، اصرفوا المكافأة للموظفين على طريقة “كلن يعني كلن”.
صورة عن قرار مجلس الإدارة الذي وافق الوزير عليه
مفوض الحكومة: إنه يتعب!
بدوره، لا يرى الوزير فياض أي ريبة بشمول مفوض الحكومة بقرار التخفيض، بل يراه “إنصافاً” له لأنه “يتعب كتيراً.. وأكثر من موظفي الكهرباء”، سائلاً “هل أقف عند تخفيض لشخص أم أُسيِّر قطاع الكهرباء؟”.
ويستفيض فياض في سرد مهام المفوض المتعددة والمرهقة (باستثناء دور الرقابة الذي لم يأت على ذكره) فهو، حسب فياض “يحضر إلزامياً اجتماعات مجلس إدارة كهرباء لبنان، التي تستغرق 5 ساعات، مرتين في الأسبوع. فمدير عام المؤسسة كمال حايك لا يأخذ قراراً إلا بتوقيعه. وبالتالي، فإن المفوض ملزم على الأقل، بقراءة القرارات التي يوقعها، وهذا جهد يستحق الالتفاتة إليه”.
وإذ يبرر شمول جميع موظفي مديرية الاستثمار، وهي سلطة الوصاية على كهرباء لبنان بالقرار، بمساواتهم بموظفي شركة الكهرباء، كموظفين “منوطين كذلك بالمساهمة بخدمة الكهرباء، وتفادياً لشعورهم بالغبن لعدم شمولهم بالقرار”، يخفض فياض من حجم المخالفة، على قاعدة “أعطيهم شيئاً من جيبهم، فإذا لم يؤمنوا الخدمة، لن يحصلوا على كهرباء بسعر مخفض”.
وعن مخالفة قراره للقانون، يرى أنه إذا كان الأمر متضارباً مع القانون، ستسقط حكماً هذه التخفيضات، لكنه يعود ويدافع عن قراراته، بقراءة خاصة به للمادة 75، يرى فيها أن “القانون يشير إلى منع التخفيضات للمؤسسات العامة ولا يحظر الاستفادة منها للموظفين”.
ويدعو فياض المستنكرين لقراره، “للتعلم” من أدائه الوزاري، الذي يصب برأيه بالمصلحة العامة، والنهوض بكهرباء لبنان، أما عن تمييزه بين الموظفين والمواطنين، فيدعو المواطن “أن يتشكرني لتحفيزي للموظفين، ليقدموا له الخدمة على أكمل وجه”.
ويبرر خطوته، بتعذر رفع رواتب موظفي القطاع العام، حاصراً الحلول “بطرق مبتكرة تستحق التشجيع”، فبرأيه على كل وزارة ان تقوم بنفسها، وأنا أمنع موت المؤسسة، فالمؤسسات تقوم بموظفيها، وأنا أحفز موظفي مديرية الاستثمار على البقاء بكرامتهم عوض البحث عن وظائف أخرى، أو اللجوء لسرقة المال العام.
أيوب: القانون أولاً!
النائبة عن كتلة الجمهورية القوية، غادة أيوب، والتي كانت قد أثارت موضوع تخفيضات مديرية الاستثمار في وزارة الطاقة، حذرت من خطورة هذه التخفيضات على مستويات عدة، أبرزها ضرب الوزير القانون بعرض الحائط، داعية للتصدي لهذه الخطوة فوراً، إذ لا يمكننا تخطي المادة 75 من قانون الموازنة عام 2001، والتي تمنع صراحة كل هذه الإعفاءات والتخفيضات وفي جميع الوزارات من دون استثناءات، وإذا أراد الوزير العمل تحت سقف القانون، ليذهب لاقتراح قانون وفق الأصول.
وإذ تخشى أيوب أن تكون خطوة الوزير بداية لمخالفة قانونية قد تمتد لمؤسسات عامة أخرى، فتفتح على الدولة أبواباً مغلقة ما يؤدي لمزيد من هدر المال العام، تحذر من الاستنسابية في القرار، سواء بين موظفين في القطاع العام، وموظفين آخرين، أو بينهم وبين المواطنين.
في السياق، تسأل، ماذا عن الهدر الذي يتسبب به القرار، ولماذا نتخلى عن إيرادات للدولة؟ وكيف نقنع المواطن أن يدفع فاتورته ليغطي بها فاتورة أخرى لم يدفعها موظفون، ما يولد لا مساواة بينهم؟ هو المرهَق أصلاً من ارتفاع التعرفة، وسوء الخدمة؟
موظفون سابقون مشمولون بالقرار
المخالفات بالقرار بالجملة. أبرزها شمول “قدامى موظفي المؤسسة بالقرار”، ما يسقط برأي أيوب، حجة الوزير بإعطاء تحفيزات للموظفين “لأداء واجبهم”، طالما أن الموظفين القدامى هم خارج الخدمة، منوهة إلى العدد المهول من المشمولين بالقرار، الذي قد يقارب 5 آلاف شخص.
أما في شق انتفاع مفوض الحكومة والمراقب المالي بالقرار، وهما موظفان في الوزارة وأعضاء في مجلس إدارة كهرباء لبنان، ويتقاضيان بدل حضور لكن لا يعملان كموظفين بالكهرباء، وعملهما رقابيّ، فتحذر من انتفاء صفة الوصاية والرقابة عنهما في هذه الحالة، بعد نيلهما تخفيضات على بدل الكهرباء، هي بمثابة رشوى، تطيح باستقلالية عملهما الرقابيّ على كهرباء لبنان.
وتسأل أيوب وزارة المالية المعنية بالتوقيع الثاني على القرارين، ماذا هي فاعلة أمام هكذا مخالفات بهذا الحجم؟ وهل ستمنح توقيعها؟ هي المعنية الأولى بالإصلاحات وتطبيق خطة التعافي؟
فالمخالفات برأيها، تطال البعد الإصلاحي، كونها تخالف روحية خطة التعافي الاقتصادي، التي تحث على تخفيض مصاريف القطاع العام لتخفيف العجز فيه، لا سيما قطاع الكهرباء، وهذه الحجة التي رفعت على أساسها تعرفة الكهرباء، بينما سنوياً يأخذ القطاع سلف خزينة نتيجة عجزه، وها نحن نعطي تخفيضات للموظفين ونوحي كأنّ القطاع بأفضل أحواله!
سلسلة رواتب مقنّعة؟
لكي يعمل الموظفون من دون اللجوء لسرقة المال العام، علينا تأمين عيشة كريمة لهم، يقول فياض. فهل يفتح الوزير الباب أمام ابتزاز جديد للمواطن، ليتحمل من جيبه، عبء تأمين الخدمة، وتأمين “امتيازات” جديدة للموظفين، تعيد للقطاع العام، شيئا من أيام المحسوبية والزبائنية التي تراجع عزها على وقع الانهيار؟
تأتي خطوة الوزير في وقت علت فيه أصوات في القطاع العام، تطالب باعفاءات على الكهرباء والمياه وغيرها، فهل تمهد الخطوة، لإطالة أمد المؤسسات العامة، من جيب المواطنين عوض ترشيقها في تهرب فاضح من الإصلاحات؟ وماذا عن تبعات هذا التهرب، تجاه مصداقية لبنان لناحية إجرائه الإصلاحات التي تخوله وحدها، النهوض والتعافي من انهياره؟