مقالات

وجه الصراع الماروني بعد الطائف: انتكاسات ولا مبررات دستورية

…وهل #الاستحقاق الرئاسي من صنيعة #الموارنة وحدهم، كي يحملّون وزر التقصير والفراغ، لا بل الشغور؟!
من الخلوة الروحية الأخيرة في بيت عنيا الى كلام رئيس مجلس النواب نبيه بري، صورّت المسألة وكأنها من ” اختصاص الموارنة” فحسب. وهكذا تتعدد الأشكال فيما النتيجة واحدة: 5 اشهر ونصف من الفراغ وتفكك مفاصل الدولة.

لم يحوّل اتفاق الطائف، دستورياً، أي من المواقع السياسية الثلاثة الى ساحة صراع بين بعضها البعض، ولم يعرّضها لأي انتقاص أو تهميش. انما الواقع السياسي هو دائما يناقض المنحى الدستوري، لأننا كلما غصنا أكثر في الشغور الرئاسي، كلما تعددت أنماط الصراعات بين المواقع والسلطات، وكأن المنسوب تصاعدي بامتياز، ويأخذ أحيانا أشكال “فوضى دستورية وفتاوى غبّ الطلب”.

تاريخيا، ليس في القول مبالغة بأن الطائفة المسيحية هي المؤسسة للكيان اللبناني – السياسي، وأن دولة لبنان الكبير، ونحن في قلب مئويتها، أعطت هذا البلد عمقا سياسيا وجذورا يصعب انتشالها او نسيانها، وما كان الإحباط المسيحي الذي رافق هذه الطائفة، بعد التسعينات، الا مؤشرا على حجم القوة النافذة الكبيرة التي كان يشعر بها المسيحيون، ما جعلهم يصابون بالإحباط، بعيد انتهاء الحرب الاهلية، وبدء مرحلة السلم، التي شعروا انها أتت على حسابهم وعلى حساب حقوقهم وصلاحياتهم، فكان اتفاق الطائف ولفترة طويلة مرادفا، بنظر عدد كبير من المسيحيين، لعبارات “الإحباط” او “الظلم” او “الاقصاء” او “التهميش”.

ولطالما كان سنّة لبنان، وعلى فترات متتالية طويلة، ركيزة أساسية في هذا المدماك اللبناني، منذ ما يقارب فترة الاستقلال عام 1943، وما هي ثنائية بشارة الخوري – رياض الصلح الا تجسيدا لهذا التاريخ ولهذا الامتداد تجاه فكرة استقلال لبنان وكيانه. حتى الاغتيالات التي طالت عددا كبيرا من رجال السنّة، في بدايات فترة الاحتلال السوري ونهاياته، عمّقت تلك الفكرة.

اما تاريخ الشيعة فله صولات وجولات، من حركة المحرومين الى الانتفاضات وصولا الى الحرب الاهلية وما تلاها من ” امتيازات”.

وعلى الرغم من ان اتفاق الطائف، أعطى شبه “تعويضات” للطائفتين السنية والشيعية، كما يحلو للبعض التفكير والقول، الا ان السنّة والشيعة معا لطالما تمتعوا برصيد سياسي اكثر من مقبول، ونعموا ” بالخيرات” في حقبة ما بعد التسعينات.

الدستور والصراعات
هذه الجردة التاريخية يحاول البعض اليوم تحويلها الى شبه صراع مسيحي – سني، بلباس دستوري، لاسيما بعدما حلّ الفراغ الرئاسي وباتت حكومة تصريف الاعمال برئاسة نجيب ميقاتي هي الشكل المتبقي للسلطة التنفيذية، الى جانب السلطة التشريعية المتمثلة بمجلس النواب.

واذا كان البرلمان منتخبا ويتمتع بالشرعية الشعبية والدستورية، فان الحكومة الحالية التي باتت حكومة تصريف اعمال، تتعرّض، عند كل استحقاق او مفصل، لأكثر من ” طعنة”، لاسيما أن الاستحقاقات المصيرية باتت أكثر من داهمة في ظل الأزمات المتتالية غير المسبوقة، ووسط تعمق الشغور الرئاسي.

من هنا، يطرح دوما السؤال حول الصراع السني – المسيحي. تارة يلبس لباسا دستوريا كآليات اجتماع مجلس الوزراء ومضمون جدول اعماله، وطورا يأخذ طابعا شكليا، كما حلّ اخيرا بالازمة المفتعلة في التوقيت الصيفي والشتوي.

انما وبالنظر الى احكام الدستور نفسه، يتبيّن ان لا موقع رئاسة الجمهورية ولا الرئيس نفسه مهددان بأي انتقاص او تهميش. وربما مرّد هذه النظرية الجدل الدائر حول ما يمكن ان يسلم رئيس الجمهورية (وهو الماروني)، عند انتهاء ولايته، زمام إدارة البلاد الى مجلس الوزراء مجتمعا (برئاسة سني).

فأي جدل يمكن ان يصل الى حد الصراع بين الموقعين؟
دستوريا، المسألة محسومة. يشرح الخبير الدستوري الدكتور سعيد مالك لـ”النهار” ان ” المادة 62 من الدستور تنص حرفيا على انه في حال خلو سدة الرئاسة لاي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء. معنى ذلك، ان لا انتقاص ولا تهميش لموقع رئيس الجمهورية، ولا لشخص الرئيس، بل ان هذه المادة هي عبارة عن آلية تنظيمية للحكم ولادارة البلاد ليس الا”.

يعود مالك الى تجارب سابقة، وليست بقديمة كثيرا، اذ ان مثلي عهدي الرئيسين اميل لحود وميشال سليمان اكبر دليل، لأن لحود وسليمان تركا سدة الرئاسة بلا خلف لهما، وبالتالي انتقلت حكما صلاحيات الرئيس الى مجلس الوزراء. ولم نشهد يومها أي جدل حول صراعات مواقع او طوائف او مقامات، بل تمّ الامر بسلاسة، لا بل كان مطلوبا من الرئيس لحود مثلا ان يرحل وبسرعة. وهذه المطالبة كانت يومها مسيحية بامتياز.

وثمة مثل أكثر من معبرّ، يتعلق بشخص الرئيس ميشال عون نفسه. وربما جميع اللبنانيين لا يزالون يذكرون تجربة الحكومتين برئيسين: ميشال عون – سليم الحص. لقد كان هذا الامر قبل الطائف، وتحديدا، بعيد انتهاء عهد الرئيس امين الجميل في 28 أيلول 1988، حين كلّف الجميل عون تشكيل حكومة عسكرية لادارة البلاد منعا للفراغ. معنى ذلك، ان ليس اتفاق الطائف هو من “شرّع” هذا الامر ، بل ان المادة 62 نفسها كانت موجودة قبل إقرار الطائف، وكانت تنص حرفيا على ” ان تناط السلطة الإجرائية وكالة بمجلس الوزراء، في حال خلو سدة الرئاسة لاي علة”.

كل هذه ” الصراعات” اليوم لا مستند دستوري اليها، وان كل الاجتهادات والتصريحات ليست سوى أدوات لرفع حمى المعارك السياسية.

حكومة فاقدة الثقة
قد يقول قائل أن هذه الآلية التنظيمية قد تصح مع حكومة كاملة وليست حكومة تصريف أعمال، كما هي الحال اليوم مع حكومة ميقاتي. إذ كيف يمكن لحكومة فاقدة ثقة مجلس النواب الجديد، أن تتسلم هي بنفسها إدارة البلاد، وتناط بها كل صلاحيات رئيس الجمهورية! الا يشكل هذا الواقع انتقاصا بالفعل لتلك الصلاحيات الرئاسية؟

يجيب مالك: “المادة 62 نفسها لم تتطرق الى حكومة كاملة الأوصاف أو حكومة تصريف أعمال، لأن الهدف أكبر وهو تجنب الفراغ في البلاد. هذا هو الأهم من نوعية الحكومة”، لافتاً الى “الفرق الكبير بين الشغور والفراغ. اذ ان الشغور يعني حكما أن تأتي سلطة ما تملؤه، عملاً بمبدأ استمرارية الحكم وضمان عمل السلطة ومؤسساتها، فيما الفراغ هو ترك البلاد بلا أي سلطة او إدارة”.

ويعود الخبير الدستوري الى التجربة الدستورية الفرنسية، كاشفاً أن “المادة 7 من الدستور الفرنسي، تقول أنه فور انتهاء ولاية رئيس الجمهورية تنتقل الصلاحيات الى رئيس مجلس الشيوخ، وفي حال التعذر تنتقل الى الحكومة الفرنسية. من دون أن يدخل أحد من الفرنسيين في جدل حول صراعات الرئيسين او الموقعين، او انتقاص لأي واحد تجاه الآخر. انها عملية تنظيمية للحكم ليس الا”.

على مرّ الأعوام، ولاسيما بعد الطائف، لطالما تردد ان اتفاق الطائف اعطى لرئاسة الحكومة (السنية) الكثير على حساب وصاية رئاسة الجمهورية (المارونية)، لاسيما انه وضع سلطة إختيار رئيس الحكومة بيد مجلس النواب والنواب انفسهم، وان السلطة الإجرائية او التنفيذية أعطيت بالفعل الى مجلس الوزراء مجتمعاً، لا الى رئيس الجمهورية وحده.

وقد رافق هذا الامر الكثير من الأقاويل التي كانت تركز على ان رئيس الحكومة أخذ صلاحيات رئيس الجمهورية، انما الوقائع اثبتت العكس، ان كانت في فترة الاحتلال السوري، أو بعده. وربما التذكير باستعمال الرئيس عون نفسه للمادة 59 من الدستور ابلغ دليل. حين فاجأ رئيس الجمهورية ميشال عون الجميع، في نيسان 2017، بطلب تأجيل انعقاد مجلس النواب الى أمد لا يتجاوز شهرا، (وفق المادة 59) مما أعطى انطباعا بأن دستور الطائف لم يبخل على رئيس الجمهورية بصلاحيات، ان هو أراد بالفعل الاحتكام اليها!

ان الإكثار من الحديث عن “المظلوميات” إن كانت شيعية او سنيّة او مارونية، مرده الى اننا لم نرتق بعد الى مصاف الدول! وهنا أصل المشكلة.

المصدر
منال شعيا - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى