لبنان مجدداً صندوق بريد… فهل تتكرّر الجولات؟
هجوم صاروخي “غريب من نوعه” وضع المنطقة في حالة من الاستنفار والتوتر. هو الأول الذي يستهدف إسرائيل من مناطق خارج فلسطين المحتلّة منذ فترة طويلة، ووُصف بالتصعيد “غير المسبوق”، وأعاد إلى الذاكرة مشاهد حرب تموز 2006، رغم فارق مستوى العملية العسكري والأمني، وتبدّل الظروف الإقليمية السياسية، علماً أنّ المشهد ليس مشابهاً بهذا القدر، لأن قواعد الاشتباك التي رُسمت حينها لا زالت ثابتة، ولم يتم خرقها.
سرعان ما اتهمت إسرائيل حركة “حماس” بالوقوف خلف الهجوم، ووجّهت اللوم إلى الحكومة اللبنانية لأن العملية انطلقت من أراضيها. واللافت أن الهجوم الصاروخي لم يحصد نتائج عسكرية، واقتصرت الأضرار على إصابتين طفيفتين في صفوف الإسرائيليين، ودمار محدود في البنى التحتية، ولم يكن بقدر حجم الهجوم، فردّت إسرائيل بشكل يُناسب الأضرار، وقصفت مواقع معدودة لـ”حماس” في غزّة، وبساتين في الجنوب اللبناني، حيث كانت قواعد الهجوم.
هكذا استثمرت إسرائيل في الهجوم
ولكن بعيداً عن النتائج المباشرة على الأرض للعملية، فثمّة نتائج سياسية حصدتها إسرائيل. تمكّنت تل أبيب من الاستثمار بالهجوم الذي أحدث نوعاً من التضامن الإسرائيلي الداخلي والوحدة في ظل الانقسام السياسي الحاد الحاصل، كما انتزعت تعاطفاً غربياً ودعماً لها في وجه المخاطر الخارجية التي تواجهها، وذلك في ظل حملات العنف التي تقوم بها في المسجد الأقصى.
قد لا يردم الهجوم الصاروخي الشرخ الحاصل بين الإسرائيليين، فالأزمة السياسية مستشرية منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف، وتستفحل، وحكومة بنيامين نتنياهو تلقى معارضة شرسة من قبل يائير لابيد وبيني غانتس، والانتفاضة الشعبية آخذة بالتمدّد بمواجهة خطة “الإصلاحات القضائية”، لكن وفي الوقت نفسه، فإن الهجمات ذكّرت الإسرائيليين بالمخاطر المحيطة بهم، فكان تصريح لابيد المعارض لنتنياهو: “ندعم الحكومة بوجه التهديدات”.
إلى ذلك، لا بد من التطرّق إلى نقطة ثانية مرتبطة بالموضوع، فإسرائيل التي “أحسنت” استثمار الهجوم، لم تنزلق إلى مواجهات قد تضر أكثر مما تنفع، والرد كان مدروساً ومتواضعاً مقارنة بردود فعل سابقة، فالطيران الإسرائيلي لم يقصف سوى مواقع معدودة لـ”حماس” في غزّة، وبساتين زراعية في لبنان، في حين اعتاد الجيش الإسرائيلي في السابق على تدمير غزّة وتنفيذ عمليات قصف عنيفة على سوريا، حينما كان يتعلّق الموضوع بامنها.
إسرائيل لا تريد الحرب… و”حزب الله” أيضاً
ردّة الفعل توحي بأن إسرائيل لا تريد الحرب ولا المواجهات، بل إنها حفظت ماء وجهها رداً على هجوم لم يُحدث أضراراً بشرية أو مادية، بل حقّق وحدةً داخلية نسبية، وفي السياق نفسه يندرج اتهام “حماس” بالوقوف خلف الهجوم وتحييد “حزب الله” بشكل كامل، بهدف نقل الرد من لبنان إلى غزّة، حيث يكون وقع المواجهة أخف، لأن الحرب مع “حزب الله” لها اعتبارات مختلفة، ولا يُمكن السيطرة عليها بسهولة مقارنة بالحرب مع “حماس”.
أما وفي الشأن اللبناني، فإن “حزب الله” لم يعلن أي موقف رسمي من العملية، وفي هذا إشارة ضمنية إلى أنّها حصلت بموافقة منه، وهذا ما تؤكّده الوقائع على الأرض، فالمنطقة التي انطلقت منها الصواريخ تخضع بشكل كامل لنفوذ الحزب وأجهزته الأمنية، ولا يُمكن خرقها من قبل تنظيمات عسكرية بـ30 صاروخاً، لكن وفي الوقت نفسه، لم يعلن الحزب مسؤوليته، لرغبته في عدم التصعيد بوجه إسرائيل، خصوصاً وأن حبر اتفاق ترسيم الحدود لم يجف، ولهذا الاتفاق ضمانات أمنية غير مكتوبة.
لبنان صندوق بريد
وفي الإطار نفسه، عاد لبنان ليكون صندوق بريد بين إيران وإسرائيل، وقد تندرج الهجمات في سياق المواجهة المستعرة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، وهي تزامنت بعد حصول اشتباك صاروخي بين الإيرانيين والأميركيين شرق سوريا، واغتيال إسرائيل لقيادات تابعة للحرس الثوري، “الجهاد الإسلامي” و”حزب الله” في سورياً أيضاً، في الأسابيع الماضية.
هذا التوتر استجد بعد التقارب الإيراني السعودي، ولا يؤشّر سوى لرفض واشنطن وتل أبيب لهذا الاتفاق الذي لا يصب في مصلحتهم لاعتبارات سياسية عدة، وقد يكون الطرفان اتخذا قرار مواجهته وتصعيد سقف الاشتباك مع إيران في المنطقة، وعندها، فإن لبنان لن يكون بمنأى عن هذا الصراع، وإن ما حصل أمس جنوباً لا يتعدّى سوى جولة من سلسلة جولات دموية مرتقبة بين الطرفين.