مقالات

بين بكين والأقصى ودمشق والقليلة

يختزل إطلاق الصواريخ من سهل القليلة على الجليل والرد الإسرائيلي عليها، ذروة من التعقيدات والأحداث الإقليمية المتسارعة التي تجتمع عواملها بين فلسطين وسوريا ولبنان وتقحم الأخير مرة أخرى في أتون المخاطر غير المحسوبة، على رغم أنّ ما جرى بالأمس من تبادل للنار قد يبقى مضبوطاً في إطار تبادل الرسائل خشية اندلاع حرب لا يريدها أطراف المواجهة التي شهدها الجنوب بعد ظهر أمس. فالإسرائيليون قالوا إنهم لا يريدون حرباً. ويفترض المرء أنّ القوة المسيطرة في الجنوب، أي «حزب الله» لا تريدها أيضاً وتعرف أن إسرائيل لا تريدها.

أنجب الجموح المجنون للمتطرفين الجدد في إسرائيل، بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتانياهو الكثير من العمليات الفدائية الفلسطينية، وتراكمت عوامل استفزاز الفلسطينيين الذين يخضعون لأشرس أنواع العنصرية والتطرف من الطبقة الحاكمة الإسرائيلية منذ مطلع السنة. بدأت النسخة الجديدة من الاستفزاز الإسرائيلي المتطرف منذ دخل إيتمار بن غفير باحة المسجد الأقصى مفتتحاً تسلمه حقيبة الأمن القومي الإسرائيلي في الحكومة، بهذه الخطوة في الثالث من كانون الثاني الماضي، مدعياً حق اليهود بالصلاة في الباحة، خارقاً بذلك حرمة مقدسة وما يسمى بـ»الوضع القائم»، المتعارف عليه من قبل الدول قاطبة، عن سابق تصور وتصميم وتخطيط وبالتنسيق مع نتانياهو… واصل المستوطنون والشرطة الإسرائيلية خطوات الاستفزاز، التي سببت عمليات عدة من فلسطينيين تارة منفردين وأخرى منظمين، مروراً بتصريح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأنه «لا يوجد شيء إسمه شعب فلسطيني» وعرضه خريطة تضم الأردن إلى «أراضي إسرائيل»، وصولاً إلى اقتحامات الشرطة المسجد الأقصى منذ بدء شهر رمضان، بوتيرة غير مسبوقة منذ حاول أرييل شارون ذلك قبل 23 سنة…

قد لا يكفي ما يجري في فلسطين المحتلة من أجل تفسير تدحرج الأحداث وصولاً إلى تصعيد الأمس انطلاقاً من جنوب لبنان. فحكام إسرائيل الحاليون في ضائقة داخلية جراء المعارضة الشديدة لسياسة الحكومة المتطرفة بعد التعديلات التي طرحتها على القوانين القضائية والتي تنهي «أسطورة» ديموقراطية الدولة العبرية الهادفة إلى التغطية على عنصريتها ونظام الأبرتايد الذي يحكمها. ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها قادتها إلى مواجهة وضع داخلي مأزوم بافتعال مواجهة مع الفلسطينيين أو مع محيطها العربي.

إلى كل ذلك كانت إسرائيل أول المتضررين من اتفاق 10 آذار الماضي في بكين بين المملكة العربية السعودية وإيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية، في وقت لا يتوقف نتانياهو وقادة الجيش عن الإعلان عن التحضير للحرب مع إيران، بسبب فشل المفاوضات في وقف برنامجها النووي، والتي تلجمها الولايات المتحدة الأميركية عنها حتى الآن لأن الأولوية هي للحرب في أوكرانيا. فضلاً عن أنّ هذا الاتفاق بمفاعيله المنتظرة إذا نجح تنفيذه، يفقدها ذريعة القلق العربي من امتلاك طهران القدرة على إنتاج قنبلة نووية، لتبرير شن الحرب، فإنه كان مناسبة لتكرّس المملكة العربية السعودية موقفها المبدئي برفض التطبيع مع إسرائيل والامتناع عن الانخراط في اتفاقيات آبراهم، إلا بعد الحل الكامل للقضية الفلسطينية عبر قيام الدولتين. وهذا يبقي الانفتاح العربي على الدولة العبرية منقوصاً وغير ذي شأن.

قد تكون المصادفة ذات مغزى، أن يبلغ التصعيد ذروته في اليوم الذي وقّع فيه وزيرا خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود وإيران حسين أمير عبد اللهيان بياناً في بكين حول خطوات استعادة العلاقات. إذ يصعب فصل استخدام ساحة لبنان مجدداً عن الإرادة الإيرانية، وعن سياق المواجهة بين تل أبيب وطهران. كان لافتاً ما بثه إعلام إسرائيلي عن أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت دعا جيشه إلى التأهب على الحدود الشمالية لمجرد معرفته أن رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» اسماعيل هنية، الحليف الوثيق لطهران، انتقل إلى لبنان. غالانت أعطى تعليماته للجيش قبل أن تحط الطائرة التي حملت هنية نهار أول من أمس في مطار رفيق الحريري الدولي، لتوقعه بأن يتخلل الزيارة ردود فعل على ما يجري في الأقصى من الأراضي اللبنانية. ثمة عامل آخر يتداخل مع التعقيدات الإقليمية، هو كثافة الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا من حلب إلى دمشق وحمص… على مدى أسبوعين، وتسببها بمقتل إيرانيين من بينهم ضابطان في الحرس الثوري قبل 3 أيام. ويبدو أنّ الردود الإيرانية من الجبهة السورية، مثل إرسال مسيرة أسقطها الإسرائيليون لم تكن ناجحة، ولا تثير الضجة مثل الردود التي تنطلق من لبنان.

طهران هي الأخرى بحاجة إلى تغطية التنازلات التي يستوجبها اتفاق بكين بإحدى بروفات المواجهات مع إسرائيل. والحجة لا تُقارع إذا كانت رداً على اقتحامات الأقصى الشريف. فعلى الأرض اللبنانية يمكنها أن تستعرض استمرارها في الاتكال على أذرعها، مهما سعى الوسطاء للحصول على «ضمانات» من مرشحي رئاسة الجمهورية.

المصدر
وليد شقير - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى