مقالات

النقابة تُدَولِر رسومها: “الله يساعد المحامي… والموكّل”

وتيرة الأحداث داخل نقابة المحامين في بيروت تتسارع. قَبْل أيام جاء قرار مَنْع المحامين من الظهور الإعلامي من دون إذن مسبق من النقيب. وهو ما ذهب البعض إلى توصيفه بقرار “كمّ الأفواه”. وها هو منسوب الغليان يرتفع مجدّداً. السبب: رَفْع الرسوم وفَرْض تقاضيها حصراً بالـ”فريش” دولار. القرار الأخير جاء مفاجئاً وبِدون سابق إنذار في مرحلة يعاني فيها المحامون الأمرّين وإغلاق عدد كبير منهم لمكاتبهم. أما الأسئلة حول أولويّات النقابة فتتوالى: زيادة وضع المحامين إرباكاً أو مساعدة أبناء المهنة كي تستعيد عافيتها؟
الرسوم التي طاولها القرار تشمل رسم الانتساب ورسم الإفادة والبطاقة ومتابعة الدعوى كما رسم تسجيل الوكالة وغيرها. لكن النقابة كانت في الآونة الأخيرة مدافعاً شرساً ضدّ سلوك مسار الدولرة الشاملة في البلد. فما الذي تغيّر؟ عودة سريعة إلى الوراء، وتحديداً إلى تشرين الثاني الماضي حين جرى رَفْع رسوم إخراج القيد والسجل العدلي. يومها تقدّم النقيب السابق النائب ملحم خلف بِطَعنٍ أمام مجلس شورى الدولة على اعتبار أن ما يحصل هو استيفاء مَبالغ غير محقّة من المواطنين. فهل سنكون أمام طعنٍ جديدٍ على قاعدة أنه إذا كان على الدولة مراعاة شؤون الناس فعلى مجلس النقابة مراعاة حال المتقاضين والمحامين بِدَوره؟ المعارضون للقرار كثرٌ، لكن للنقابة وجهة نظرها. نستشفّ الرأي والرأي الآخر.

كيف نعيش؟

نسأل بداية عضو مجلس النقابة، المحامية مايا الزغريني، التي شدّدت في حديثها لـ”نداء الوطن” على أن قرار رَفْع الرسوم هو لمصلحة المحامي ولمساعدته. كيف ذلك؟ “سوف تُقسَّم الرسوم على صندوق التقاعد وصندوق النقابة والصناديق الأخرى بعد أن يتمّ تحصيلها. والجميع يعلم أن المبلغ الذي يتقاضاه المتقاعد (ألف دولار سابقاً) فَقَدَ قيمته كلياً بعد انهيار قيمة الليرة. فإن لم نرفع الرسوم، كيف سنتمكّن من رَفْع راتب التقاعد الذي سيستفيد منه المحامون جميعاً من دون استثناء؟”. من جهة أخرى، أشارت الزغريني إلى أن الدفع بواسطة الشيكات متوقّف كلياً، وبالتالي الحلّ الوحيد يتمثّل بتسديد الرواتب بالدولار الـ”فريش” ما يستدعي تأمين إيرادات بالـ”فريش” أيضاً. وعرّجت في هذا السياق على رواتب موظّفي النقابة التي أصبحت غير مقبولة والتي لا يمكن رَفْعها طالما أن رسم الوكالة مثلاً هو أربعمائة ألف ليرة فقط لا غير.

أما عن السبب الكامن خلف تقاضي الرسوم حصراً بالدولار الطازج، أجابت الزغريني أنه يتعذّر على مجلس النقابة أَخْذ قرارٍ بتصريف الدولار طالما أن الأخير ما زال غير ثابت، ما سيجعل الميزانية غير متطابقة، لا بل غير صحيحة. من هنا، بحسب رأيها، كان قرار تحويل كافة المداخيل كما كافة المصاريف والرواتب إلى الدولار. القرار وفق البعض سيضع المحامي في مواجهة مع موكّله. لكن من وجهة نظر الزغريني فهو سيسهّل، على عكس ما يقال، عمل المحامي لأنه سيتيح له تبرير تقاضي أتعابه بالدولار بناء على قرار نقابته. “المهندس مثلاً يتقاضى أتعابه بالدولار شأنه شأن الطبيب. فنحن كيف نعيش؟ ولِمَ لَم تَقُم القيامة على شركات التأمين والمستشفيات وتسعير الأدوية كما قامت علينا؟”. هو تساؤل مرفق بِتَمنّ على الزملاء الاطلاع على خلفيات القرار وعلى مشاكل النقابة قبل القيام بأي ردّ فعل. وختمت مؤكّدة أن النقابة لم تتّخذ القرار إلا بعد فشل المساعي المرتبطة باسترداد أموالها العالقة في المصارف.

النقيب السابق للمحامين في بيروت، المحامي بطرس ضومط، لفت من جهته في دردشة مع “نداء الوطن” إلى ضرورة احترام قرارات النقابة والالتزام بها. لكن هذا لا ينفي واجب حصول نقاش ضمن البيت الداخلي لما فيه مصلحة النقابة والمحامي، من ناحية، وضمان الحريات والقانون، من ناحية أخرى. ويكمل: “ليست النقابة جزيرة معزولة بل هي جزء من هذا المجتمع ومن مؤسّساته التي لم يسلم أي منها جرّاء الأزمة الاقتصادية وتدهور العملة. عصر النفقات أمرٌ لا بدّ منه أوّلاً كما حصرها في إطار الحدّ الأدنى تأميناً للاستمرارية في هذه المرحلة الصعبة”. ضومط تطرّق هو الآخر إلى احتجاز أموال النقابة بعشرات ملايين الدولارات داخل المصارف في وقت فقدت فيه الرسوم التي يسدّدها المحامون قيمتها، ما جعل النقابة غير قادرة على تغطية النفقات.

حلّ غير كافٍ؟

لا جدال في ذلك. والمهنة تمرّ بأكثر مراحلها كارثية كما يأتي على لسان الأغلبية الساحقة من المحامين. فالإضرابات المتتالية- قضاة ومحامون وموظفّون- عطّلت أكثر ما عطّلت عجلة عمل المحامين. بحسب ضومط، تُعتبر الزيادة على الرسوم بشكلها الحالي غير مقبولة إذ كان من الأفضل أن تتمّ بصورة تدريجية مع الإبقاء على حق المحامي اختيار التسديد بالدولار أو ما يساوي قيمة الرسم بالليرة. ويستطرد: “هذا حق قانوني ووطني لا يمكن التغاضي عنه. لكن النقابة، للأسف، لجأت إلى أسهل الحلول وأسرعها رغم أنني أجزم بأن عليها البحث عن مصادر تمويل أخرى في المستقبل. فحين يتوفّر شرطا النية والمبادرة لا بدّ من إيجاد السُبل. الرسوم وحدها لن تكون كافية لتغطية النفقات والله يساعد المحامي والموكّل… الشعب تِعِب والوضع مأسوي عالكلّ”.

ما إن تنامت المعلومات حول القرار حتى علت، بما لا يدعو للمفاجأة، أصواتٌ معارضة. الناشط الحقوقي المحامي علي عباس عبّر عن صرخة في اتصال مع “نداء الوطن” قائلاً: “وسط الظروف الحالكة التي ترخي بظلالها على المهنة، من حيث توقّف العمل كلياً في العدلية والمحاكم ودوائر الدولة بسبب الإضرابات المتكررة، نشهد إغلاق الكثير من مكاتب المحاماة نتيجة عجز أصحابها عن تسديد المصاريف”. دمارٌ غير مسبوق، كما وصّفه عباس، إذ أضحى عمل المحامي ثانوياً مقارنة مع معاناة الآلاف المؤلّفة من الناس لتأمين مصاريف المأكل والمشرب والطبابة والتعليم. محامون كثرٌ، كما سمعنا، كانوا يتطلّعون إلى مساعدة النقابة لهم، ليأتي عِوَضاً عن ذلك رَفْع الرسوم ودولرتها. وهذا مثال بالأرقام: رسم الوكالة الذي كان 75 ألف ليرة رُفِع إلى 600 ألف ليرة. “قَبِلنا بذلك كون النقابة بحاجة إلى زيادة مداخيلها. لكن أن يُرفع الرسم مجدّداً اليوم إلى 10 دولارات فهذا غير مقبول. لِنَفترض أن إحدى السيدات فَقَدَت حقيبة يدها وأرادت توكيل محامٍ والتقدّم بشكوى. فقد تكون قيمة الحقيبة بمحتواها لا تساوي 10 دولارات…”، والكلام لعباس.

ثم هناك الطوابع المفقودة من فئة ألف ليرة، ما يُضطر المحامي إلى استخدام طوابع من فئة مائة ألف ليرة، إضافة إلى “الإكراميات” التي باتت “فَرْض واجب” لإتمام المعاملات لأسباب ليست خافية على أحد. هذا عدا عن أن صندوق النقابة يفتح يوماً أو يومين في الأسبوع لا أكثر. فما المقصود من ذلك، يتساءل عباس؟ أما الطامة الكبرى، كما قال، فهي رَفْع رسم التدرّج إلى 300 دولار “فريش” بدلاً من مليون ليرة. حصرٌ للمهنة بالأغنياء فقط؟ سؤال آخر يُطرح. كان على النقابة حماية المواطن الذي لا يزال يتقاضى راتبه بالليرة وأن تكون عبرة لِرَفض الدولرة، برأي عباس، الذي يتابع: “بأيّ منطق سأتكلّم مع موكّل مصدر دخله بالليرة؟ لِمَ لَم تلجأ النقابة إلى استرجاع رسوم كتاب العدل غير المستردّة بعد، أو التنسيق مع باقي النقابات لاسترداد أموالها المحجوزة في المصارف؟ ولِمَ صدر القرار فجأة ودون مقدّمات؟”. أسئلة متكرّرة لا تنتهي.

أزمة وطن

للمحامي الدكتور عبده جميل غصوب وجهة نظر مختلفة عن قناعته بأن الأزمة لم تَعُد محصورة بقرارات نقابية من هنا وزيادة رسوم ودولرتها من هناك. الأزمة هي أزمة وطن لا أزمة نظام ولا حتى أزمة قانون. أما في ما خصّ قرار النقابة، فاعتبر أن مداخيل النقابة تراجعت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ إذ إن إبقاءها بالليرة غير وارد على الإطلاق. وأضاف: “كنا طبعاً نفضّل أن تبقى الرسوم بالعملة الوطنية لكن صندوق التقاعد يعاني من عجز كبير والنقابة تعاني من عجز أكبر هي الأخرى. والحال أنها تتقاضى من المحامي رسماً بقيمة 800 ألف ليرة وتسدّد عنه فرق بوليصة التأمين بقيمة 240 دولاراً. فكيف لها أن تستمرّ على هذا المنوال؟”. وللأمانة هنا، فإيرادات النقابة تأتي حصراً من المحامين ومن بعض الرسوم، مع العلم أن الأخيرة لا تشكّل أكثر من 15 إلى 20% من مُجمل المداخيل.

بجميع الأحوال، عُدنا وسمعنا أن القرار سيضع المحامي في مواجهة حتميّة مع الموكّل. وهي حقيقة لم ينكرها غصوب، خاصة أن ما يُقارِب 20% فقط من الموكّلين يتمتّعون بالقدرة على الدفع بالدولار “الفريش”. وعن تداعيات القرار “القاسي الذي لا بدّ منه”، كما سمّاه، ومستقبل المهنة، توقّع غصوب عرقلة قطاع العدالة بأكمله. ليس فقط بسبب الرسوم الجديدة إنما الوضع العام السائد، الذي ليست أقلّ علاماته تكلّس الإدارة وتوقّفها عن العمل والإضرابات داخل العدلية وخارجها.

البعض يطالب بتعديل قانون تنظيم مهنة المحاماة الذي أعطى مجلس النقابة تفويضاً شرعياً صوّب من خلاله بالأمس القريب على الحريات العامة برأي المعترضين. وقرار رَفْع الرسوم يصوّب بدوره على القواعد والأسس التي لطالما كانت من صلب مبادئ النقابة.

وهكذا ثمة تخوّف من أن يؤدّي قرار رَفْع الرسوم إلى نتيجة عكسية وإلى عرقلة مسار التقاضي وتقديم الدعاوى، حيث ستتراجع نسبة الذين سيلجأون إلى القضاء. أما التخوّف الأكبر فهو من تزامن “اللاثقة” بالقضاء وتقهقر القطاعات مع ارتفاع وتيرة اللجوء إلى “الزعيم” – التي لم تَغِب يوماً أصلاً – لاسترداد الحق أو المطالبة به.

لكن قد يكون ما ختم به غصوب أصدق تعبير عن واقع مرير: “لا النقابة ستُرضي المحامي، ولا المحامي سيُرضي الموكّل، ولا الدولة ستُرضي شعبها ولا الشعب سيَرضى عن الدولة”.

المصدر
كارين عبد النور -نداء الوطن

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى