عرايا في إسطنبول
علي الصاوي
عندما تضيق خيارات الإنسان في الحياة، فإما أن يقتل نفسه أو يقتل غيره، وقد لا يكون قتل الآخر قتلا ماديا بل يقتل فيه روح الحياة ويسلب منه بهجتها والقدرة على الاستمتاع بها، يُمارس عليه الظلم ويقصم ظهره بأثقال من الهموم، ويهيل عليه التراب فيدفنه حيّا، ثم يعود هذا الفَسل اللعين مزهوا بنصره الرخيص في معركة غير متكافئة، شعر فيها برجولته وسطوته وهو في الحقيقة هزم نفسه من دون أن يدري.
بؤساء الغربة ما زالوا يتفننون في نفخ كير خبثهم ومكرهم على من حولهم ويأبوا إلا أن يُصبحوا شياطين في جثمان إنس، وكلما اقتربت المسافات كشفت لك طامات كبرى من سوء أخلاق وانتهاك حرمات وفساد نوايا وموت ضمائر.
قاربت الساعة السادسة مساء ولم يكن المحامي ” محمد أوزتورك” الذي يجيد العربية بطلاقة، يتوقع أن يقابل صديقه الذي لم يره منذ مدة بسبب ضيق الوقت وجغرافيا إسطنبول الوعرة وبُعد مسافاتها الشاسعة، جلسا الاثنان في مطعم فاخر لتناول وجبة الغداء حتى أخذهما الحديث نحو وجه قبيح من أوجه حياة أولئك الذين يقولون أنهم خرجوا من ديارهم بغير حق، غير مدركين أن الله كتب عليهم الخروج ليتعرفوا على أنفسهم من جديد وتنضح نفوسهم بما أخفته وما زالت تخفيه، وقد شاء القدر أن يضع بينهم نفوسا ضعافا ليكونوا شهداء على جرمهم واختبار لشعاراتهم المزيفة وترمومتر يقيس منسوب الحالة الصحية لإنسانيتهم وحقيقة دعواهم للحق، حتى كشفهم وخلع عنهم آخر ورقة توت كانت تسترهم.
قصص إنسانية ومأساوية خلف الجدران لا ضجيج لها لكن أثرها في كل مكان، رواها “أوزتورك” لصديقه عن أسر مصرية وعربية تفككت ونساء متزوجات الجسد لكنهن مطلقات الروح، وأخريات يعانين من صلف أزواجهن وهجرهم لهن، بعد أن تبرجت لهم حياة الغربة وفتحت لهم ذراعيها فسقطوا صرعى إغوائها، فتركوهن في حيرة ولجاجة، وهرولت نفوسهم الأمارة وراء الاستماع باللذة الحلال والحرام، فمنهم ما استبدلهن بغيرهن ومنهم من يمعن في إذلالهن وظلمهن، وسرعان ما تبخر من عقول هؤلاء الرجال مواقف أزواجهن حين خرجوا مُطاردين مشرّدين يبحثون عن وطن يؤويهم من الضياع، وكسرة خبز تنجيهم من الجوع، نسوا أن لولا صبر أولئك النسوة لما نجحوا ووصلوا إلى بر الأمان وكانوا ما هم عليه الأن، فكان جزائهن الطلاق أوالاعتداء والإهانة، أوالإهمال في غربة تقهر الرجال.. فكيف بالنساء؟
في برد إسطنبول لا تَعدم أن ترى عرايا في زحام شوارعها من المدعين والآفاقين، من ضلّت الرحمة طريق قلوبهم فاستقوا على نسائهن بلا شفقة، للتنفيس عن مكنون صدورهم وعللهم النفسية، لتظل المرأة هى الضحية التي تدفع ثمن تردي المجتمع وسوء أخلاق الرجال، لا مرؤة ولا رجولة حين تسمع عن ذاك الذي ترك زوجته بلا نفقة في ظروف عسرة هو من وضعها فيها من الأساس، فكان الجزاء جحود ونكران، وترى آخر يضربها ويُمزق ثيابها ويصور جسدها ليذلها في ساعة ليل متأخرة لتعيش المسكينة ظلامين، ظلام الليل وعتمته وظلام ظلم الزوج وقسوته، وتلك التى تحوّلت إلى رجل تُنفق وتربي لتنصل زوجها من المسؤولية ليعيش عالة على مجهود إمرأة كانت تظنه رجلا، لكن الغربة كشفت عن معدنه، وأن ليس شرطا كونك ذكرا أنك صرت رجلا.
فرد عليه صديقه بقوله: ألم أقل لك من قبل إن ليس كل مظلوم أو ضعيف يستحق النصرة، فما يدريك؟ فلو تمكن هذا أو ذاك من رقاب الناس يوما لربما قطفها بسيف بطشه وكان أشد قسوة ممن ظلمه، لكن قلة الحيلة وضِيق الإمكانات تحجزه عن ذلك، إلى أن يتحيّن الفرصة فيبسط سيطرته على الناس بسلطوية وإذلال، وهؤلاء المرضى لم يجدوا سوى أزواجهن الضعفاء ليظلموهن، رغم ما يرفعون من شعارات العدل والكرامة والإنصاف وأنهم ضحايا وهم في الحقيقة جناة؛ ألم تقرأ قول المتنبي:
“والظلم من شيم النفوس..فإن ترى ذا عفةٍ فلعِلة لا يظلم”
فالظلم كان يقبع في نفوسهم إلى أن وجد ثغرة نفذ منها هذا الظلم فأذاقوا الآخرين وبال أمرهم، فلا تغتر بشكواهم هنا وهناك، فخلف تلك الشكاوى والمظلومية حقد يتآكل وأنياب تُسنّ ومشروع ظالم لم تتهيأ له الفرصة بعد.