مقالات

سياسة المافيا خيار اللادولة

الدول “وحوش باردة” كما قال الجنرال ديغول. لكن اللادول وحوش ضارية، كما كشفت مأساة لبنان. وصندوق النقد الدولي الذي قيل لنا من البداية إنه محطة إجبارية على طريق التعافي ليس “كاريتاس”، لكنه أيضاً ليس الشيطان الذي تدفع وصفاته البلدان المأزومة الى المزيد من البؤس في أزمات أعمق. وبعثة الصندوق التي زارت لبنان مؤخراً بدت متعاطفة مع اللبنانيين، صبورة على تذاكي المسؤولين اللامسؤولين الذين لا مكان في اهتماماتهم لحال اللبنانيين.

البعثة حذرت من “أن لبنان يقف حالياً على مفترق طرق خطير، ومن دون إصلاحات سريعة سيغرق في أزمة لا نهاية لها”. ولم تتجاهل “مخاطر الدولرة النقدية المرتفعة بالفعل”. وهم في عالم آخر يبدأ وينتهي بما يخدم مصالحهم الصغيرة، ويضمن ما يصبّ في الجيب، وإن كان بعضهم يعمل لمشاريع واسعة مرتبطة بالغيب. فلا شيء يوحي أنهم يرون لبنان في”خطر شديد”. وكل شيء يؤكد أن المافيا السياسية والمالية والميليشيوية تبدو مطمئنة الى أنها في حال جيدة، وأن تجاهل الأخطار والكوارث التي تضرب لبنان واللبنانيين ليس نوعاً من اللامبالاة بل سياسة تدار بكامل الوعي والخبث.

ذلك أن الوضع المثالي بالنسبة الى المافيا كان ولا يزال اللادولة. وخيارها الأساس هو تهميش ما في البلد من مؤسسات ومحاربة أي مشروع لبناء الدولة. ولا فرق، سواء أخدمت خيارها بالإصرار على الشغور الرئاسي عن سابق تصوّر وتصميم، والدفع نحو الفراغ في الحد الأدنى من السلطة، أم ملأت المؤسسات بما يخدمها، بحيث تكون مجرد هياكل فارغة. ففي اللادولة ضمان للمزيد من الفساد والسطو على المال العام والخاص واللامحاسبة واللامراقبة. فضلاً عن حرية التهريب عبر المرافق الشرعية والمعابر غير الشرعية. وفضلاً أيضاً عن اللعب في مساحات ما دون الدولة حيث الغرائز والإستنفارات الطائفية والمذهبية، وعن الإستقواء بالروابط الخارجية والعمل المفتوح لمشاريع ما فوق الدولة.

حتى الدعوات الى “التوجه شرقاً”، فإنها نوع من التشاطر في فتح باب مفتوح أصلاً. والكل يعرف أن إيران هنا، والصين هنا، وروسيا هنا، ولبنان يتاجر مع الجميع ويبحث عن المستثمرين في كل مكان. لكن مشكلة العروض الإيرانية، بصرف النظر عن نوعها، هي الخوف من العقوبات الأميركية المفروضة على طهران. وليس لدى روسيا عروض معلقة في هواء بيروت. ولا عروض صينية مرفوضة. والذاكرة لا تزال طرية حين جرى الإعتذار من موسكو عن عدم الإستعداد لاستقبال هديتها من طائرات ميغ، بإصرار من طرف الداعين اليوم الى التوجه شرقاً. والصين مثل الدول الكبرى ليست جمعية خيرية. ولا هي توظف أموالها في مشاريع في بلد بلا دولة.

وهكذا نعود الى الأساس: الإصلاحات المطلوبة التي تماطل المافيا في تنفيذها لأنها تضرب مصالحها. وإذا كانت المسألة كلها هي الإعتراض على ما يطلبه الغرب من إصلاحات، وما يأتي من المؤسسات الدولية التي للغرب دور كبير فيها، فإن غياب الإصلاحات يحول دون أن ينفّذ الشرق أي مشروع حيوي للبنان. إنه خيار اللادولة يا سادة. ولا مجال، بعد وقوعنا في هوة الأزمات العميقة، لتغطية “السموات بالقبوات”. والمطلوب خطوة جدية واحدة في اتجاه عودة الروح الى المؤسسات، والتوقف عن تعليق الدستور واللعبة الديمقراطية، واستعادة الجمهورية من الأسر.

يقول المؤرخ نيال فيرغوسون في مقال عن “سياسة إدارة الكوارث” إنه “نادراً ما نحصل على الكارثة التي نتوقعها”. لكن اللبنانيين حصلوا على الكارثة التي توقعوها وحذّرهم منها العرب والغرب، وجاءت فوق حدود الوصف.

المصدر
رفيق خوري - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى