مقالات

الفلتان الإعلامي وحريّة تعبير المحامين: الخيط الرفيع يُختَبر!


حَدٌّ من الفوضى الإعلامية أم كمٌّ للأفواه؟ البلد معسكرات. ونحن هنا أمام معسكرين خَلقهما تعديل نظام آداب مهنة المحاماة ومناقب المحامين مؤخّراً داخل نقابة المحامين في بيروت. التنوّع النقابي تجسيد مكثّف للموزاييك اللبناني على مختلف تلاوينه. فالرأي والرأي المغاير جزء من اللعبة هناك. لكن أن تكون العلاقة بالإعلام منطلقاً للتموضع، فهذا يضفي بعداً آخر على المسألة.
الشرخ بين أفراد «العائلة القانونية» الواحدة واضح. مردّه ضرورة استحصال المحامي على إذن مسبق من النقيب قبل المشاركة بأي ندوة أو مقابلة ذات طابع قانوني عبر وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية. محامون مؤيّدون، آخرون معارضون وتُهم التحريض حاضرة هي الأخرى. فما للقرار وما عليه؟

كفى تفلّتاً…

عضو النقابة، المحامي ألكسندر نجّار، اعتبر التعديل، خلال اتصال مع «نداء الوطن»، من أولويّات العمل النقابي. إذ من مهام المجلس السَهَر على تنظيم مهنة المحاماة. ويوضح أن التعديل لم يَطَل سوى المادة 41 من النظام موضوع البحث – أي أن سائر المواد الخاصة بعلاقة المحامي بوسائل الإعلام بقيت على حالها. مَنْع المحامي من الحديث إعلامياً عن ملفّاته كان موجوداً أصلاً، كما وجوب أخذ موافقة النقيب بشأن الحديث عن «القضايا الكبرى التي تهمّ المجتمع» العالقة أمام القضاء. ثم أن المادة 40 مَنَعت (قبل التعديل) المحامي صراحةً من التعاقد والتعامل والاشتراك مع أي وسيلة إعلامية للردّ على أسئلة قانونية تُوجَّه إليه من الجمهور مباشرة في برامج منظّمة.

هكذا يخبرنا نجّار ويضيف: «المتضرّرون خلطوا الحابل بالنابل بهدف التضليل، محاولين الإيهام بأننا قَلَبنا الأمور رأساً على عقب وبأننا نكمّ أفواه محاربي الفساد، في حين أننا قمنا فقط بتنظيم الوضع بالنسبة للظهور الإعلامي ووجدنا آلية للتخفيف من الفلتان الحالي». وخلافاً لما يُشاع، يرتبط التعديل حصراً بالظهور الإعلامي ولا يشمل الندوات والاجتماعات والنقاشات القانونية المنظّمة خارج هذا الإطار، أو الظهور الإعلامي حول الشؤون الثقافية والاجتماعية. أما الدعوة لإنذار أو معاقبة المخالفين بدل إصدار التعديل، فيرى فيها نجار إغفالاً لواقع أنه يُستحسَن وضع الأمور في نصابها الصحيح بدل المعاقبة، انطلاقاً من مقولة «درهم وقاية خير من قنطار علاج».

لا للقمع… نعم لتنظيم أفضل

نسأل عن العقوبات التي ستُفرض على المحامي المخالِف، فيشير نجّار إلى أن التعديلات تسري على جميع منتسبي النقابة. والحال أن النقيب ناضر كسبار يتلقّى يومياً عدة طلبات من محامين للمشاركة في برامج إعلامية وهو يتعاطى معها برحابة صدر وإيجابية، مع لفت نظر المتقدّمين بالطلبات (بمحبّة) إلى وجوب تفادي أي تجاوز قد يمسّ بآداب المهنة أو يشكّل دعاية غير مشروعة. أما في حال حصول تجاوزات، فقد ينظر فيها المجلس التأديبي المكوَّن من محامين لاتّخاذ التدابير المناسبة. بحسب نجّار، غالبية المنتسبين رحّبوا بالتعديلات لأن الكيل قد طفح بِنَظرهم من مشاهد الفوضى والدعاية والتَلاسُن والتحقير والحديث عن قضايا جارية للتأثير على مجرياتها خلافاً للأصول.

«كيف نشكو من الفوضى في البلد ولا نرتّب بيتنا الداخلي؟ التعديلات جاءت لتذكّر المحامين بواجباتهم ومسؤولياتهم وآداب المهنة من دون المساس بحريّة التعبير المقدّسة. وقد أصرّيت في مستهلّ جلسة التعديلات على تلاوة النصوص التي ترعى الظهور الإعلامي للمحامين في الغرب، ووزّعت دراسة حول الموضوع ما يدلّ على أننا قاربناه من جميع نواحيه بدون مبالغة أو بطش»، والكلام لنجّار. وينهي بدليل واضح بِنَظره على أن المشكلة مزمنة وكانت تقلق المجالس السابقة. والحديث هنا عن قيام النائب الحالي والنقيب السابق، ملحم خلف، المعروف بتمسّكه بالحريات، بِمَنع الظهور الإعلامي للمحامين طوال عشرة أيام محيلاً محاميَين كبيرَين إلى المجلس التأديبي بحجة إدلائهما بتصاريح حول إضراب المحامين. «نحن من جهتنا لم نقمع ولم نمنع، بل قمنا فقط بتنظيم الأمور لمصلحة المهنة والنقابة».

القَسَم هو الرادع

نتوجّه إلى النائب ملحم خلف الذي اعتبر أن تحصين مهنة المحاماة أساسي، غير أن التعديلات تُعدّ مخالفة للدستور. فالمحامي هو الإنسان الجريء القادر على مواجهة التسلّط، والنص الوحيد الملزِم الذي يضع القيود عليه هو قَسَمه لا غير. «خلال ولايتي كان هناك تفلّت لكنني دأبت على التذكير بوجوب الالتزام بالنصوص القائمة. وإذ شارفت ولايتي على الانتهاء، تقدّمت بتعديلات تخفّف من القيود على حرية المحامي شرط الالتزام بِقَسَمه»، بحسب خلف.

هل يبرّر التفلّت تقييد حرية المحامي بدل اعتماد منطق التحذير؟ يتساءل خلف معلّلاً رفْضه للتعديلات بِسبَبَين: الأول مساسها بحريّة الرأي والتعبير وهي أساس وجود المحامي ورسالته في المجتمع. والثاني المسّ بخصوصية حياته الشخصية كمحامٍ وفقدانه نوعاً من المساواة التي يكفلها الدستور بينه وبين سائر المواطنين. وإذ رأى في التشدّد تكبيلاً للمحامي في ممارسة حقوقه – خاصة وأنه طال ممارسته لحقوق ليس لها علاقة بالحياة النقابية – دعا إلى الرجوع عن التعديلات وإلى النص الأساسي وإلزام المحامي بِحُسن تطبيق نظام آداب مهنة المحاماة ومناقب المحامين.

إستحالة الإلتزام

النقيب السابق، ريمون عيد، شارك في صياغة النظام المذكور. نستفسر منه عن أسباب استبدال عبارة «يُستحسَن إعلام النقيب» بـ»وجوب أخذ موافقته»، فيجيب: «لقد ساهَمْت في وضع النظام مع مجموعة محامين خلال ولاية النقيب المرحوم ريمون شديد. وحرصنا يومذاك على اختيار العبارات بتأنّ. لا أعلم ما الذي حصل الأسبوع الماضي داخل النقابة ليجري التعديل وما تبعه من جدلٍ».

عيد أكّد ضرورة تقيّد المحامي بأخلاق المهنة، بنصوص وبدونها. لكنه أشار إلى استحالة الالتزام بها – مهما عُدّلت العبارات – إذ لا يمكن مراقبة إطلالات المحامين التلفزيونية وهي بالمئات أسبوعياً. أما المعترضون والراغبون بإعادة الأمور إلى نصابها، فدعاهم للتباحث مع النقيب. «لا أظنّ أن النقيب يقبل باتّخاذ قرارات تضرّ بالمحامين أو بالمهنة. باعتقادي لا يكون الحلّ باعتماد القوة في وضع قوانين ونصوص مشابهة. فليس هكذا تُصحَّح المسائل»، كما يختم

تَراجُع أو طعن؟

ونسأل أكثر. النائب (والمحامي) جورج عقيص أبدى في حديث لـ»نداء الوطن» أسفه لما آلت إليه الأمور: «لا النقيب ولا الأعضاء عوّدونا على هكذا تصرُّف. كنا ننتظر من المجلس إنجازات كبيرة كونه يضم كفاءات من مختلف الأطياف والأحزاب. ما حصل سقطة وأتمنّى أن يعود عنها حرصاً على صورته وصوناً لحرية التعبير». الاستياء من مسألة الفلتان الإعلامي على بعض الشاشات لا ينكره عقيص. لكن المعالجة برأيه لا تكون بِكمّ جميع الأفواه بل بملاحقة المخالفين والمتمادين. هؤلاء قادة رأي ولا يمكن تحويلهم إلى مواطنين درجة ثانية عبر حرمانهم من التعبير عن ذلك الرأي، على حدّ تعبيره.

ما الحلّ إذاً؟ يجيب عقيص: «تفعيل الأجهزة الرقابية داخل النقابة ومجالس التأديب التابعة لها، حيث لا يجوز الاستسهال والذهاب نحو المنع المطلق». عبر التاريخ، كانت النقابة أوّل من يرفع الصوت ضدّ أي ممارسات تَحُدّ من حرية الرأي والتعبير. ويختم: «المرارة هنا مضاعفة لأن النقابة طالما كانت الحصن المنيع ضد ممارسات القمع. لكنها تقوم اليوم بالممارسات نفسها. وكوني رجل قانون، لا يمكن أن أشجّع على عدم الالتزام بالقرار رغم معارضتي له. فإمّا تَراجُع النقابة تلقائياً عنه أو التوجّه لإمكانية الطعن أمام المراجع القضائية المختصّة».

هل من يحرّض؟

نأتي إلى الاتّهامات بالتحريض. المحامي جاد طعمه، في معرض شرح رفضه للتعديلات، يقول: «بلغني الكلام من مصادر عدة، والبعض استخدم لغة النصح في حين أن آخرين لجأوا إلى لغة التحذير. لكنني أنطلق من أمرين: الإرث الذي أحمله لمواجهة مَواطِن الخلل بالكلمة المسؤولة والموضوعية كأحد خرّيجي مدرسة النقيب الراحل عصام كرم؛ وكوني ممّن جرى ترشيحهم في العام 2021 من خلال عريضة موقّعة من حوالى 100 زميل وزميلة، ونلت يومها ثقة 580 من الزملاء ولهم الوفاء والتقدير».

طعمه أبلغ النقيب كسبار أنه سيمارس حقّه بالطعن وأبدى الأخير تفهّمه وترحيبه بكل الخطوات القانونية والرصينة. وإذ نفى وجود حملة ممنهجة ضدّ أعضاء مجلس النقابة، حيث هم الخيار الديمقراطي للجمعية العامة واحترامهم واجب، استطرد: «الحديث عن تعديل مادة وحيدة غير دقيق، حيث جرت إضافة تعبير «وسائل التواصل الاجتماعي» على جميع المواد المتعلّقة بالظهور الإعلامي لمساواتها بالوسائل الإعلامية، وهذا ليس تفصيلاً. وفي المادة الوحيدة التي يجري التركيز عليها استعيض عن «استحسان إبلاغ النقيب (…)» بـ»وجوب الحصول على إذن منه (…)». وفي ذلك تقويض للحرية».

متابعون للعمل النقابي، على أي حال، يتخوّفون من تطوّرات الأيام المقبلة ومن هوية الفئة التي ستُستثنى من إعطاء الإذن. وما يضاعف مخاوفهم هو إدخال التعديلات في زمن تكثر فيه محاولات الإفلات من العقاب والانقسامات داخل القضاء. فالمسائل الخلافية ليس أقلّها سُبل تحقيق العدالة وتطبيق القانون، الأداء الاستنسابي للقطاع المصرفي، والانهيار التام للدولة. فَلنُراقب.

من مظاهر الفلتان الإعلامي

• تفشّي الدعاية المباشرة وغير المباشرة.

• التحدّث عن ملفات قيد النظر.

• القدح والذم بحقّ محامين وقضاة.

• قبض أو دفع مبالغ مالية مقابل الظهور الإعلامي.

• إعطاء استشارات قانونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي واستخدام شعار النقابة وكأنها هي صاحبة المبادرة.

المصدر
كارين عبد النور- نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى