مقالات

الحرب العالميّة الثالثة

تشهد الساحة العالميّة حاليّاً أجواء سياسيّة وديبلوماسيّة واقتصاديّة وماليّة وعسكريّة مماثلة لتلك التي مهّدت لاندلاع الحرب العالميّة الثانية عام 1939. المؤشّرات الاقتصاديّة والماليّة المقلقة، وفشل الأمم المتحدة في حلّ النزاعات الدوليّة، وسباق التسلّح وتشكيل التحالفات العابرة للقارات وتوسيعها وتعزيزها، وصعود الصين ومزاحمتها للولايات المتحدة الأميركيّة على المسرح الدولي، واستعار حدّة الخلافات العميقة الداخليّة والإقليميّة والدوليّة على امتداد الكرة الأرضيّة، والصراع على الموارد والمعادن الطبيعيّة والمواد والسلع الاستراتيجيّة… كلّها معطيات وظروف وعوامل تُنبئ بمستقبل أسود مقبل على البشريّة، التي يبدو أنّها لم ولن تتعلّم من عِبر التاريخ ومآسيه.

كان الحديث عن حرب عالميّة ثالثة غير واقعي وغير منطقي منذ عقد من الزمن، خصوصاً أن التوازنات الدوليّة آنذاك لا تُفرز مثل هكذا حرب لوجود هوّة سحيقة في موازين القوى بين الدول المتصارعة. لكنّ المعادلات بدأت تتغيّر بسرعة هائلة. صحيح أن الولايات المتحدة الأميركيّة تبقى القوّة المهيمنة على المشهد الدولي، إلّا أن الصعود السريع للصين واقتحامها الأخير للمشهد السياسي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا وآسيا الوسطى، له دلالاته الجيوستراتيجية البالغة الأهميّة.

تكثر النزاعات والساحات التي قد تُشكّل الشرارة الأولى لاندلاع حرب عالميّة ثالثة وسط بيئة سياسيّة واقتصاديّة وماليّة وأمنيّة عالميّة مضطربة إلى أقصى الحدود، مع تنامي المشاعر القوميّة في أكثر من بقعة صراع في أرجاء المعمورة. حتّى أن الكثير من ساحات الصراع الساخنة والباردة باتت مترابطة جيوسياسيّاً وجيواقتصاديّاً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، الأمر الذي يرفع من احتمالات تمدّد رقعة أي نزاع دموي وتحوّله من حرب داخليّة أو إقليميّة محصورة مكانيّاً، إلى دوليّة شاملة مفتوحة على مصراعيها بلمح البصر.

أبرز تلك الساحات أوكرانيا، حيث تخوض روسيا حرباً شنيعة وصعبة، قد تؤدّي أي خطوة غير محسوبة خلالها إلى توسّع الحرب وحصول صدام مباشر بين روسيا والناتو. وهذا سيناريو قائم ولو أن المعنيين يُحسنون قراءة المخاطر حتّى اللحظة ويتّخذون خطواتهم بدقّة لتفادي أي مغامرة قد تأخذ البشريّة بأسرها إلى ما لا تُحمد عقباه. وبينما قرّبت هذه المواجهة الروسيّة – الغربيّة المفتوحة، «الدب الروسي» من «التنين الصيني»، لا بل ذهب محلّلون إلى اعتبار أن «الدب» بات يجلس في حضن «التنين»، تبقى الأنظار شاخصة إلى حراك الرئيس الصيني شي جينبينغ على خطّ النزاع وما قد ينتج عنه من حلحلة سياسيّة أو تصعيد ميداني.

كما تزداد التحدّيات العسكريّة والأمنيّة المتّصلة بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ بشكل عام، وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي بشكل خاص، خصوصاً مع اقتراب «ساعة الصفر» التي سيُحدّدها الحزب الشيوعي الصيني لشنّ «حرب التوحيد» لغزو تايوان وضمّها إلى برّه الأساسي، وما سيترتّب عن مثل هكذا قرار من تداعيات دراماتيكيّة ودخول قوى أخرى على خطّ النزاع كالولايات المتحدة الأميركيّة واليابان وربّما كوريا الجنوبيّة والفيليبين وأستراليا وبريطانيا وغيرها من الدول، فضلاً عن الحالة الشاذة في شبه الجزيرة الكوريّة المتمثّلة بالنظام الشيوعي الحاكم في بيونغ يانغ، الذي يمتلك أسلحة نوويّة وصواريخ عابرة للقارات يبتزّ بها الزعيم كيم جونغ أون المجتمع الدولي من خلال التجارب الصاروخيّة المتتالية، في وقت تبقى فيه واشنطن وسيول متأهّبتين عبر تنظيمهما مناورات مشتركة ضخمة لتذكير النظام المعزول في الشمال بعواقب أي قرار متهوّر.

ومن النزاعات الحامية، الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ذو الأبعاد الدينيّة والقوميّة الجسيمة وحيث للقوى المتناحرة امتدادات وتحالفات إقليميّة ودوليّة متشعّبة. ومن الأراضي المقدّسة المضطربة الجاهزة للانفجار على الدوام إلى المخاطر المتنامية المرتبطة ببرنامج إيران النووي، وما إذا كانت حسابات الدولة العبريّة ستقتضي شنّ هجوم عسكري شامل لتدمير منشآت الجمهوريّة الإسلاميّة النوويّة باستخدام أسلحة ذريّة تكتيكيّة، وانعكاسات مثل هكذا خطوة على الأمن الإقليمي والعالمي. ومن النووي الإيراني إلى النزاعات البحريّة في الحوض الشرقي للمتوسّط، لا سيّما الخلافات بين عضوَي الناتو، اليونان وتركيا، إذ تمتهن أنقرة إشعال الأجواء وخلق توتّر عسكري بين حين وآخر عبر تحدّيها أثينا بسيادتها على جزرها ومساحات بحريّة تابعة لها، ما يجعل المنطقة بؤرة توتّر دائم، تسخن وتبرد بحسب مصالح القوى المعنيّة وأجنداتها.

ولا يُمكن اغفال الصراع الحدودي بين القوّتَين النوويّتَين، الصين والهند، الذي يطفو إلى السطح من وقت إلى آخر لتُسارع بكين ونيودلهي إلى إخماده لما قد ينجم عن انفجاره من عواقب وخيمة، إضافةً إلى الصراع الهندي – الباكستاني حول كشمير، حيث يدخل أيضاً العامل النووي على خطّ النزاع بين الدولتَين اللدودتَين. ربّما تندلع شرارة الحرب العالميّة الثالثة بعمليّة اغتيال أو اعتقال تستهدف شخصيّة مرموقة، أو بحادث جوّي أو فضائي أو سيبراني أو بحري أو برّي – حدودي ضخم بين قوى كبرى، يتسبّب بتدهور سريع للأوضاع الأمنيّة وسط ردود فعل عسكريّة متبادلة. وقد تنفجر إحدى تلك الساحات الخامدة من دون أن تؤدّي إلى حرب عالميّة. لا أحد يعلم من أين يُمكن أن تنطلق الشرارة الأولى لحرب عالميّة ثالثة، لكنّ كلّ تلك الساحات الآنفة الذكر وغيرها قد تشتعل في سيناريو فوضى عالميّة يُصبح خلاله النظام الدولي في خبر كان.

والشرارة التي قد تُطلق الحرب الهرمجدونيّة المرتقبة لن تكون سوى السبب المباشر لبداية جلجلة نهاية الحياة البشريّة كما نعرفها اليوم، فيما ستلعب الأسباب غير المباشرة التي بدأت تتبلور وتتراكم مع بداية القرن الحالي، الدور الأساسي في تزخيم المقوّمات الجوهريّة التي ستُمهّد للانفجار العظيم. ومع امتلاك 9 دول السلاح النووي، وهي إضافةً إلى الدول الخمس الدائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي، إسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشماليّة، تزداد المخاوف من استخدام الأسلحة الذريّة في أي صراع قادم، ولو لم يتحوّل إلى حرب عالميّة، وانعكاسه على طبيعة الحياة البشريّة ومستقبلها.

إندلاع الحرب العالميّة الثالثة ليس بالأمر المحتّم، بيد أن ما يُعلّمنا إيّاه التاريخ ومسار التطوّرات المتفاقمة على المسرح العالمي والتحوّلات التي تطرأ على النظام الدولي، لا تُبشّر بالخير ولا تُمهّد لسلام عالمي عادل ودائم وشامل، كما يتمنّى «الأفلاطونيّون» المتفائلون. الحقيقة صعبة، لكنّها تُجسّد واقع الحال. البشريّة تسير بخطى ثابتة نحو حرب عالميّة لن تكون شبيهة بالحربَين العالميّتَين السابقتَين، بل ستكون أوسع نطاقاً وأكثر كلفة وفتكاً وتدميراً، وقد تقضي التكنولوجيا المستخدمة فيها على التقدّم العلمي الحاصل وقطاعات برمّتها، وتُعيدنا قروناً إلى الوراء. وجه العالم سيتغيّر جذريّاً ليُعاد رسمه من جديد على مقاسات الرابحين ومصالحهم أو حتّى فقط على قدر الطموحات المتواضعة للناجين.

المصدر
جوزيف حبيب - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى