مقالات

بالوقائع والأدلّة والقانون الدوليّ: إليكم منظومة الخيانة العظمى

بعد أكثر من 70 عاماً من الصراع، نجحت إسرائيل في انتزاع اعتراف أممي قانوني دولي بها، من لبنان، وبها على أنّها “دولة”.

في 14 شباط الماضي نشرت الأمم المتحدة وثيقة تصديق أمينها العام على تبادل رسائل “اتفاقية دولية بين دولة إسرائيل والجمهورية اللبنانية”. مسألة خطيرة جداً. دفعت منظومة بيروت إلى الردّ بالتالي:

  • “ما فعلته إسرائيل قامت به من طرف واحد.
  • وهو لا يعني شيئاً لنا ولم نكن على علم به أو نتوقّعه.
  • علماً أنّه أصلاً، لم يكن بالإمكان القيام بغير ما فعلنا أو أكثر ممّا فعلنا، في موضوع الترسيم البحري.
  • في النهاية، لماذا هذه الضجّة الآن؟ علماً أنّ بين لبنان وإسرائيل اتفاقية دولية سابقة عمرها 74 عاماً، هي اتفاقية الهدنة”.

أربع حجج ذرائعية ردّت بها المنظومة، تشكّل في كلّ حرف منها نموذجاً لتزاوج الدجل والجهل.

فلنبدأ بتفنيدهما:

أولاً، القول إنّ ما قامت به إسرائيل مجرّد خطوة أحاديّة من طرفها، وإنّها استكمال لعملية إيداع وثائق إحداثيات البحر التي قمنا بها معاً في 27 تشرين الأول الماضي، وإنّه لا معنى أو مفاعيل لها بالقانون الدولي، فهذه هذه سلسلة كذبات فاقعة فاضحة أولى. ذلك أنّ تصديق الأمم المتحدة على اتفاقية دولية، يختلف كليّاً عن مجرّد إيداع وثيقة، مثل وثيقة الإحداثيات المذكورة.

صحيح أنّه عند إيداع وثيقة عادية أحاديّة تكتفي المنظمة الأممية بتسجيلها ونشرها إذا لزم. أمّا طلب تصديق اتفاقية دولية فيخضع لآليّة مختلفة، إذ تسجَّل لدى الأمانة العامة أوّلاً، ثمّ تقوم هذه الأخيرة بالتدقيق في الطلب ودرسه وتقويمه ثانياً، ثمّ تعلن قرار التصديق أو عدمه ثالثاً.

هذا ما يفسّر بأنّ طلب التصديق الإسرائيلي سُجّل في 22 كانون الأول الماضي، بينما صدر التصديق نفسه في 14 شباط، وهو ما يعني أنّه استوجب الدرس نحو 50 يوماً قبل قبول الطلب وإعلانه.

فإلامَ استندت الأمم المتحدة لتعتبر “تهريبة” كاريش اتفاقية دولية؟

طبعاً على نصّ الاتفاق الموقّع من “الدولتين”، وتحديداً من رئيسي الدولتين، والذي يذكر أكثر من 16 مرّة أنّ هذا “اتفاق”، وأنّه بموجبه “اتفق الطرفان”. وهذا ما ارتكبه بأعين مفتوحة الذين سوّقوا ووقّعوا وصفّقوا وهرّبوا.

كذبة.. في ضواحي بيروت

ثانياً، أمّا ذريعة أنّنا وقّعنا على نصّين منفصلين، فهذه مزحة لا تتخطّى ضواحي بيروت. ذلك أنّ الأمم المتحدة تعتمد في التقويم والتدقيق على معاهدة فيينا للاتفاقيات الدولية التي تنصّ في مادّتها الثانية بشكل حرفي على أنّه “يُقصد “بالمعاهدة” الاتفاق الدولي المعقود بين الدول في صيغة مكتوبة والذي ينظّمه القانون الدولي، سواء تضمّنته وثيقة واحدة أو وثيقتان متّصلتان أو أكثر، ومهما كانت تسميته الخاصة”. وبالتالي يمكن لدجّالي بيروت أن يسمّوا تهريبتهم ما شاؤوا. لكنّها بموجب معاهدة فيينا التي وقّع عليها لبنان، تظلّ “معاهدة دولية”.

حتى تذرُّع هؤلاء بأنّهم قدّموا رسالتهم إلى الوسيط الأميركي، لا إلى الأمم المتحدة مباشرة، هو كذبة فاضحة أخرى. أوّلاً، لأنّهم عادوا وراسلوا نيويورك مباشرة وأودعوها وثيقتين منفصلتين متطابقتين. (وهو ما لنا عودة إلى فضيحة أكبر فيه لاحقاً). وثانياً، لأنّهم كانوا يعرفون اجتهاد القانون الدولي في هذا المجال لجهة أنّ تبادل الرسائل المنفصلة هو اتفاقية دولية، بدليل سابقة الاتفاقية الدولية بين قطر والبحرين سنة 1987. يومها وجّه الطرفان رسائلهما المنفصلة إلى الوسيط السعودي عبر مراسلات ثنائية بينيّة: الرياض – الدوحة، والرياض – المنامة. وهو ما أقرّته لاحقاً محكمة العدل الدولية على أنّه معاهدة دولية.

لا بل أكثر، فهم يعرفون، لا شكّ، أنّ اتفاق تثبيت حدود دولة لبنان، أو اتفاق بوليه نيوكومب الشهير لعام 1923، الذي كرّس ولا يزال جغرافيا دولتنا الراهنة، هو نفسه تبادل رسائل منفصلة. وهو اتفاقية دولية يعتدّ بها لبنان في كلّ المحافل. وبالتالي فمسؤولو منظومتنا يعرفون ذلك. وهو ما يرفع منسوب الدجل على الجهل في القضية.

ثالثاً، ادّعاء المنظومة أنّه لم يكن من سبيل للترسيم غير ما ارتكبوا، وبالتالي ما كان بالإمكان تجنّب “أضراره الجانبية”، لهو نموذج آخر للدجل والجهل معاً. فالمنظومة كانت تدرك منذ أعوام أنّ ما يريده لبنان من ملف الترسيم هو مجرّد إلزام الكيان الإسرائيلي باحترام الخطّ الفاصل، وجعل هذا الإلزام جزءاً من موجبات القانون الدولي، بلا اعتراف ولا تطبيع. وهذه المنظومة كانت تعرف أنّ القانون الدولي يجيز بأن ينبثق الموجب القانوني إمّا من معاهدة دولية كما ارتكبوا، وإمّا من إعلان أحاديّ الجانب، على مثال تفاهم وقف التجارب النووية بين فرنسا وأستراليا ونيوزيلندا. وهو ما شكّل إلزاماً للدول المعنية، بموجب مفاعيل القانون الدولي، استناداً إلى إعلانات أحادية الجانب من كلّ طرف. وهو ما تبنّته محكمة العدل الدولية. أي في حالة لبنان، كان يكفي أن يعلن لبنان أحاديّاً عن إحداثيات منطقته الخاصة، ويعلن الكيان الأمر نفسه، بلا نصّ مشترك يذكر 16 مرّة أنّ الحكومتين “اتّفقتا”.

لكنّ ما ارتُكب كان عن قصد. ولأسباب فردية مصلحية صغيرة وضيّقة… ستُكشف تباعاً ولاحقاً.

رابعاً، تساءل أهل المنظومة عن أسباب الضجة، فيما هناك سابقة في اتفاق الهدنة بيننا وبين إسرائيل منذ عام 1949. هنا يبلغ الدجل والجهل حدّاً أقصى للأسباب السريعة التالية:

  • اتفاق 1949 حمل عنوان: “اتفاق هدنة بين لبنان وإسرائيل”. حتى توقيعه كان “عن حكومة لبنان وحكومة إسرائيل”. وهناك فرق أساسي في القانون الدولي بين هاتين الصيغتين، وبين صيغة “جمهورية لبنان ودولة إسرائيل” التي ارتكبتها المنظومة في صفقة ترسيمها. لأنّه بموجب فقه القانون الدولي، عندما تتحدّث عن “دولة” يعني أنّك تعترف بهذه “الدولة”. وأنّك تعترف بأرض هذه “الدولة”. وبالتالي فأنت تعترف بسيادة هذه “الدولة” على تلك الأرض. وهذه أرض فلسطين بالنسبة إلى لبنان. إلا إذا غيّر أهل المنظومة ذلك.
  • إلى ذلك، أصرّ الجانب اللبناني يومئذٍ على تضمين اتفاق الهدنة نصّاً صريحاً يؤكّد أنّ هدف الاتفاق هو “تصفية النزاع وإعادة السلم إلى فلسطين”، وأنّ توقيع لبنان على الاتفاق لا يمسّ “مطالبه أو مواقفه في التسوية السلمية النهائية لقضية فلسطين”.

كما حرص لبنان يومذاك على التأكيد أنّه “يتبع الخط الفاصل للهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين”.

هذا يوم كان للبنان قضية وطنية اؤتُمنت عليها مؤسّسته الوطنية الأولى، الجيش، لا منظومة سمسرة وعمولات.

اتفاقية دولية.. وفق معاهدة فيينا

خامساً، وعلى قاعدة “ربّ ضارّة نافعة”، ماذا بعد إقرار الأمم المتحدة باعتراف منظومتنا بدولة إسرائيل، وفق اعتبارها ومنطقها؟

الإيجابية الوحيدة الممكن اقتناصها ممّا حصل أنّ تهريبة كاريش باتت بمفهوم القانون الدولي اتفاقية دولية. وباتت بالتالي خاضعة بالكامل لمندرجات معاهدة فيينا. وهي المعاهدة التي تؤكّد في مادّتها 46 أنّه لا يحقّ للدولة الطرف في معاهدة دولية التذرّع بأنّ إقرار هذه المعاهدة شكّل خرقاً “لحكم في قانونها الداخلي يتعلّق بالاختصاص بعقد المعاهدات (…) إلا إذا كانت المخالفة بيّنة وتعلّقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي”. كما نصّت على أنّه “تُعتبر المخالفة بيّنة إذا كانت واضحة بصورة موضوعية لأيّة دولة تتصرّف في هذا الشأن وفق التعامل المعتاد وبحسن نيّة”. ومخالفة تهريبة كاريش لأحكام المادة 52 من الدستور اللبناني، مخالفة أكثر من “بيّنة”، بل صارخة.

الآن، وقد باتت التهريبة معاهدة دولية، صار بالإمكان، استناداً إلى معاهدة فيينا بالذت، العودة عنها.

وهو ما يقتضي انتظار زمن دولة ومسؤولين قادرين على تصحيح ما يقع في الدستور والقوانين اللبنانية في موقع الخيانة العظمى.

تبقى ملاحظة جوهرية: بعد انكشاف التصديق الأممي على اعتبار التهريبة اتفاقية دولية، لوحظ أنّ موقع الأمم المتحدة عاد وأخفى قرار التصديق عن صفحته على الإنترنت. وهو سلوك مريب مشبوه بات متكرّراً في هذه القضية. علماً أنّ الإخفاء هو تهريجة إلكترونية لا غير، إذ لا يلغي حصول التصديق ولا مفاعيله، لكنّه يشير إلى مدى إزعاج المعنيين وإحراجهم حيال ارتكابهم، وإلى قدرة عرّابيهم وتأثير مشغّليهم ومحرّكيهم، من منظومة بيروت إلى نظام معلوماتية نيويورك.

إنّه ربط نزاع لن ينتهي إلا بانتزاع الحقّ من نصّابيه. بالإذن ممّن لا يزال يكابر بأنّه لم يُخدع، وبأنّ كلّ كلام عن فضح الخديعة، كلام مشبوه!!

المصدر
جان عزيز - أساس ميديا

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى