سياسة

هل هدف باسيل “فيديرالية” يحكم مسيحيّيها؟

لا يشك لبنانيون كثيرون في أن القاضية غادة عون غير ملوّثة بالفساد المباشر في صورة عامة. لكن محاربتها له لا تبدو منفصلة عن “أجندة” فريق سياسي مهم في البلاد يمثله مؤسّس “التيار الوطني الحر” الرئيس ميشال عون، وينفرد في تمثيله حالياً وريثه السياسي الوحيد النائب جبران باسيل بعد انتهاء الولاية الرئاسية للأول.

وهذا أمرٌ يضرب صدقيتها ولا سيما في ظل حصرها ملاحقاتها القضائية بالجهات السياسية المعادية لـ”التيار” وتغاضيها عن ارتكاباته أو ارتكابات بعضه وهي ليست قليلة، ولا تختلف أبداً عن ارتكابات من تلاحقهم وبإصرار وعناد. ما يضرب صدقيتها أيضاً تخطيها القوانين والأنظمة التي تحكم عمل السلطة القضائية على تنوّع الاختصاصات فيها، ورفضها تنفيذ المذكرات الخطية التي وجهّها إليها رؤساؤها بحكم صلاحياتهم القانونية، واستمرارها في ملاحقة “الفاسدين” الذين ينحصرون في رأيها في فريق معيّن أو ربما فريقين، علماً بأن الفساد في لبنان جماعي مع الأسف رغم ادعاءات العفة ومظاهرها الخادعة ومحاولة كل فريق لبناني تغطيتها (أي المظاهر) بمواقف طائفية ومذهبية متشدّدة لا بل متطرّفة جداً. ما يضرب هذه الصدقية أخيراً التمسّك بالممارسة القضائية الشاذة رغم مواقف رؤسائها المباشرين وغير المباشرين الرافضين تصرّفها والمطالبينها بالعودة عن الخطأ بموجب مذكرات خطية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما أسباب عناد القاضية عون وتمسّكها “برسالتها” السامية أي محاربة الفساد؟ الأجوبة عنه متنوّعة تبدأ أولاً من شخصيتها غير الفاسدة، وثانياً من ولائها السياسي الأعمى لفريق سياسي وازن ومن قبل وصوله الى السلطة، واستمر وازناً بعد خروجه منها. وهو يستفيد منها في محاولة تنفيذ مشروعه السياسي الحالي باعتبار أن مشروعاته المن هذا النوع تختلف وتتناقض تبعاً للمصالح والظروف السياسية الداخلية والخارجية ولتبدّل التحالفات.

ما يؤكد كل المذكور أعلاه عدم تجرّؤ أركان السلطة القضائية المنقسمين في ولاءاتهم السياسية والمتناقضين في حماية المصالح المتناقضة لحماتهم السياسيين على وقف القاضية عون “عند حدّها” استناداً الى القانون. السبب الأول لذلك الحماية التامّة التي وفّرتها لها مرجعيتها السياسية الرسمية والحزبية والشعبية. السبب الثاني الذي قد يفوق الأول أهمية هو شيوع الفساد داخل السلطة القضائية وإن بنسب مختلفة، وارتباط أركانها وحتى قضاتها على اختلاف مراتبهم والرتب بالجهات السياسية الطائفية والمذهبية التي عيّنتهم، وبروز التناقض بينهم ورغبتهم الكامنة في حماية أنفسهم إذا ما تعمّمت المحاسبة بعد إطاحة الحمايات “الثابتة”. طبعاً هناك سبب ثالث على الأرجح هو الطموحات السياسية لعدد مهم من أركان السلطة القضائية. وهم ينتمون الى طوائف ومذاهب مختلفة، أما السبب الرابع وهو ربما يجب أن يكون الأول فهو ضغط “الدول الثلاث” القائمة في البلاد برؤسائها على القضاء كما على مرافق الدولة كلها للمحافظة على مصالحها بل مصالح رؤسائها. وهذا أمر شلّ القضاء بكل مؤسساته وصارت شعوب لبنان تعرفه بالتفصيل بدليل دخول هذه السلطة في حال موت سريري وفي حال انكشاف أمام الرأي العام على تناقضه والعالم.

كيف قرّر رئيس حكومة تصريف الأعمال التي تمارس مهمات رئيس الجمهورية جرّاء الشغور الرئاسي وبموجب الدستور وقف القاضية غادة عون “عند حدّها” كما يُقال بمذكّرة اعتبرها معارضوه والمستهدفون بها من القضاة والسياسيين غير قانونية وغير دستورية؟ تفيد المعلومات أن الرئيس نجيب ميقاتي شعر بالعجز عن مواجهة الحركة القضائية “غير القانونية” في رأيه ورأي كثيرين غيره في ظل الوضع الشاذ والاستثنائي في البلاد (شغور رئاسي وحكومة تحت رحمة أطراف سياسيين متخاصمين بل متحاربين سياسياً حتى الآن، و”إقفال” واقعي لمجلس النواب بل تعطيل له وانقسام الأجهزة الأمنية بين الرؤساء الثلاثة، وحصول عون على دعم تام من أحدها جرّاء تبعيته التامة للرئيس عون في أثناء ولايته كما بعد انتهائها).
في تلك الفترة كان المحامي الجدّي والكفوء والوزير السابق رشيد درباس في زيارة للسرايا الحكومية فالتقى وزير الداخلية بسام مولوي وهو في رأيه من “أشطر” القضاة وأكثرهم فهماً وتهذيباً، فتحدثا في طريقة لوقف القاضية عون “عند حدّها”. فقال درباس: “هناك مادة في قانون أصول المحاكمات المدنية تقول: كل متضرّر من قرار ينطوي على خطأ جسيم للقاضي يحق له رفع دعوى على الدولة بكل مؤسساتها فإما تُلغي القرار وإما تدفع تعويضاً للمتضرّر (أو المتضرّرين). ومحكمة التمييز بقضاتها العشرة تبتّ دعوى الاعتراض فتُبطل التعدّي وترفع يد القاضي صاحب القرار موضع البحث والشكوى من دون تبليغ. طبعاً لن يغوص “الموقف هذا النهار” في موضوع قضائي ليس من اختصاص كاتبه. لكنه يجيب في النهاية عن سؤال يطرحه الناس بقوة هذه الأيام وهو الآتي: ما هدف رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل من الاستمرار في تحريض القاضية عون ومن التصعيد في مواقفه السياسية ضد حلفائه “السابقين” غير المسيحيين وأخصامه بل أعدائه المسيحيين، كما من تطبيقه الأعمى لمقولة “أنا أعمى ما بشوف أنا ضرّاب السيوف”؟ والجواب كما يعطيه ويؤكده أعداء له وأخصام وحتى مؤيّدون هو الآتي: “إن كنت لا أستطيع حكم البلاد لأسباب عدة ولا أستطيع “المحافظة” على حقوق المسيحيين في دولة لبنان فإنني أستطيع الإسهام مع آخرين في تقسيمها أو فدرلتها وتالياً أن أحكمها”. هل ينجح في ذلك في ظل عودة الأحزاب المسيحية الأقوى الى المطالبة بالفيديرالية وإن بعد تسميتها لا مركزية موسّعة إدارية وإنمائية ومالية؟ لا جواب الآن عن هذا السؤال. لكن للبحث صلة.

المصدر
النهار

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى