مقالات

المسيحيون و14 شباط: التفاصيل لا تُفسد النظرة الاستراتيجية مع السنّة

لم تنتهِ تداعيات زلزال إغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي قلب التوازنات والمعادلات الداخلية والخارجية ومهّد لمرحلة سياسية جديدة. يُصنّف اغتياله بأنه الإغتيال الأكبر عالمياً، من حيث تأثيره وتداعياته وحجم التفجير، بعد اغتيال الرئيس الأميركي جون كيندي، لكن لبنان ليس أميركا، والأشخاص يلعبون لعبتهم على رغم مقولة الحريري الشهيرة: «ما حدا أكبر من بلدو».

كان الإغتيال الشهير ظهيرة 14 شباط 2005 الشرارة التي أطلقت معركة الإستقلال الثاني وإخراج جيش الإحتلال السوري من لبنان بعد ضغط شعبي كبير طالب بانسحاب المحتل و»فكفكة» سلطته الأمنية ومواقف دولية قادها الرئيسان الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك مطالبةً بإنهاء السيطرة السورية.

تلقّف المكوّن المسيحي حينها لحظة الإغتيال وأبعاده، وسمع الشارع السنّي يهتف «سوريا برّا»، و»لبنان أولاً». وهي الشعارات التي طالما كان المسيحي تواقاً لسماعها من شريكه السنّي في الوطن خصوصاً وأنّ الصراع التاريخي حمل في الكثير من جوانبه طابعاً سنياً – مسيحياً.

لحظة ولادة لبنان الكبير بطلبٍ وسعيٍ مارونيَّين، عارض السنّة هذا الأمر وطالبوا بالإلتحاق بسوريا التي كان يتزعّمها الأمير فيصل، ومن ثمّ ذهب السنّة إلى مؤتمر «الساحل» المطالب بالإنضمام إلى سوريا، وبعد الإستقلال تحرّك الشعور السنّي القومي وطالبوا بانضمام لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ومن ثمّ ناصروا الفدائيين الفلسطينيين واستخدموا البارودة الفلسطينية لقلب توازنات الداخل، وانتهى الأمر بمباركة السيطرة السورية على لبنان التي ضربت المكوّن المسيحي.

لم يستطع المكوّن المسيحي بكامل صفوفه إستيعاب «التكويعة» السنّية التاريخية، بل ذهب أكبر تيار مسيحي عام 2005 أي «التيار الوطني الحرّ» إلى صفوف «حزب الله» ومحور «الممانعة» بينما شكّل السنّة بقيادة تيار «المستقبل» الرافعة لـ14 آذار.

لا شكّ أن أخطاء «الحريرية السياسية» كثيرة، لكن الموقف التاريخي كان يجب مقابلته باستيعاب مسيحي حتى لو كانت شهوة السلطة ومحاولة السيطرة على كل المواقع كبيرة عند تيار «المستقبل». من يرصد السياسة اللبنانية يكتشف وجود خلل سنّي شبيه بالخلل المسيحي الذي حصل بعد انتهاء الحرب الأهلية، لكن مع فارق جوهري هو تعرّض المكوّن المسيحي للإضطهاد من قِبل السلطة الأمنية اللبنانية – السورية التي نفت العماد ميشال عون وسجنت قائد «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع وحلّت الأحزاب والتيارات المسيحية ولاحقت الناشطين، بينما اختار زعيم السنّة الرئيس سعد الحريري الإبتعاد الطوعي وتعليق العمل السياسي من دون تعرّضه لاضطهاد سياسي، بل إنه في المرحلة الأخيرة كان حليفاً لمن يملك القوة في لبنان أي «الثنائي الشيعي».

خسر المكوّن المسيحي المعركة الإستراتيجية مع شريكه السنّي، والدليل أن من يتحكّم بمفاصل الدولة والقرار هو محور «الممانعة» بقيادة «حزب الله»، وانتقل اللاعب المسيحي من إستراتيجي بين عامَي 1990 و2005 يقود معركة تحرير لبنان من الإحتلال السوري، إلى مُنقّب عن رئيس للجمهورية في جمهورية لا تملك استقلاليتها.

وإذا كانت بكركي بقيادة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير قادت معركة التحرير الثانية، يجهد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من أجل حفظ ما تبقّى من الجمهورية وتحريرها من الهيمنة الخارجية، وهو لأجل ذلك رفع لواء مطالب «تحييد لبنان وإقامة مؤتمر دولي إنقاذي»، ويعاني البطريرك من غياب شريك سنّي يلاقيه إلى منتصف الطريق مثلما حصل بعد إغتيال الرئيس الحريري. تعيش جميع المكوّنات اللبنانية في مأزق، لكن الأساس يبقى أن الهوية اللبنانية في خطر، وِفق ما يُحذّر قادة المعارضة والمراجع الروحية وعلى رأسها البطريرك الراعي والمفتي عبد اللطيف دريان، ويُلقى الحمل الأكبر على المسيحيين ليؤمّنوا الغطاء الأكبر لمعارضة وطنية ترفض تحويل هذا البلد من نموذج كما أراده الموارنة المؤسّسون وعمل على تطويره الرئيس رفيق الحريري، فالمناصب مهمة لكن الستراتيجيا تبقى الأهم، وهذا ما ينجح به محور «الممانعة».

ويأتي حديث عدد من القيادات الروحية السنّية في سياق تصويب البوصلة والتأكيد أنّ السنّة ثابتون على شعار «لبنان أولاً»، ويريدون مدّ الجسور مع جميع المكوّنات وعلى رأسها المكوّن المسيحي، ويفصلون بين الخلاف السياسي المشروع والذي يحصل داخل الصف الواحد أحياناً والنظرة الإستراتيجية حول موضوع قيام الدولة وحصر السلاح بيد الشرعية.

ثمة موجة ترى سقوط النظام المركزي أمراً واقعاً، وتتعاظم المطالب المسيحية في هذا السياق، لكن هذا الأمر لا يُخيف دار الفتوى وبعض المرجعيات السنّية، والتي تؤكد أنّ «اتفاق الطائف نصّ على إعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة، لذلك فلنطبّق «الطائف» وبعدها لكل حادث حديث».

تحاول دار الفتوى إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع بكركي وهي كانت الداعية إلى عدم مقاطعة السنّة الإنتخابات النيابية على رغم إعتكاف الحريري. من هنا، فالتنسيق السياسي ينسحب على الرؤية الإستراتيجية، والتي تنطلق من ضرورة حفظ البلد وعدم إلحاقه بالمحاور الخارجية.

من جهتها، تُبدي بكركي كل الحرص على التواصل مع المرجعيات السنّية سواء السياسية أو الدينية، وهناك اتفاق على ضرورة إبقاء خطوط التواصل مفتوحة، وهذا الأمر ينطبق على الأحزاب المسيحية المعارضة وعلى رأسها «القوات اللبنانية» التي حاول بعض المستقبليين توجيه السهام ضدها خصوصاً في الإنتخابات النيابية الأخيرة، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل لأن الخطوط العريضة التي تجمع الفريق نفسه أكبر من طموحات بعض الصغار ومحاولاتهم زرع الشقاق داخل الصف الواحد.

المصدر
آلان سركيس - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى