مقالات خاصة

الإسعافات النفسيّة الأوليّة بعد الزلزال الذي هتك أعماقنا !

بضع لحظات مرّت كعام كامل، هكذا وصّف معظم من شعروا بالزلزال مشاعرهم لحظة وقوع الحدث. أربعون ثانية تداخلت خلالها المشاعر، وبين الذكريات والأحلام والمخاوف تربّعت الصدمة فوق الجميع!
تردّدت قبل الشروع بكتابة هذه المادة، فالتنظير عن بُعد قد يكون سهلًا! لكنها مجرّد محاولة لمساعدة أنفسنا والآخرين، فصحّتنا النفسية أولويّة أيضًا، خصوصًا وأننا في بلدان العالم الثالث لم تتم تهيأتنا لمجابهة الصدمات، لا من خلال النظام التعليمي ولا حتى الاجتماعي، بل إننا بتنا نسّلم للأمر ونستبعد ضرورة التربيت على أنفسنا.
الاسعافات النفسية الأولية هي منهج مصمّم لمساعدة من مرّوا بحادث صادم، بطريقة إنسانيّة وداعمة وعمليّة، ومن خلالها يتم تقديم مجموعة من المهارات؛ إنها تقنيّة تهدف لتخفيف آثار الأحداث المؤلمة كالكوارث الطبيعيّة أو الحروب أو الحوادث أو العنف. وقد تم تطويرها من قِبل المركز الوطني لاضطراب ما بعد الصدمة، وهو قسم تابع لوزارة شؤون المحاربين القدامى الموجودة في الولايات المتّحدة.
من هنا، تواصلنا مع المعالجة النفسيّة علا خضر، للحديث عن كيفية التعامل مع أنفسنا ومع الآخرين، بعد تلقّي صدمة بحجم هذا الزلزال، خصوصًا أن مشاعر الخوف والأرق باتت تجتاح السوشيال ميديا. أما نحن فسنعرض من خلال هذا التحقيق أبرز الأعراض وكيفيّة التعامل معها، مع صغار السنّ ومع الفئة الشابة والمتقدّمة في العمر.
أكّدت المعالجة علا بدايةً أنّ من تعرّض للزلزال بشكل مباشر فقد شعوره بالأمان، خصوصًا أولئك الذين تدمرّت منازلهم أو فقدوا أحد أفراد عائلتهم، فقد خسروا معها مصدر الحب والأمان والخصوصيّة! الأمر الذي يتسبب بآثار جانبيّة سلبيّة.
لكنّها ورغم تأكيدها على أنّ الأمر يشمل الصغار والكبار، ركّزت على تأثير الحادثة على الأطفال، فقالت لـ”قلم سياسي” إننا قد نلحظ عند من هم دون الـ6 سنوات تضاعف تعلّقهم بمن يهتمون بهم، وتظهر عليهم علامات الخوف من أي صوت جديد، بل قد يصل الأمر لتقلّبات في نومهم وغذائهم، وبكائهم من دون سبب، وتراجع تصرّفاتهم مقارنة بسنّهم.
أمّا بالنسبة الأطفال الذين تزيد أعمارهم عن الـ6 سنوات، فتتطابق الأعراض لجهة الخوف من النوم، وتلاشي قابليتهم للطعام وتضاعف قلقهم، لكنّهم يظهرون جنوحًا إضافيًّا نحو العزلة، وقد يعبّرون بعدوانيّة، وتظهر عليهم مشاكل ضعف التركيز والحركة الزائدة.
أعراضٌ ستتوافق مع ما يواجهه الأهالي حاليًّا، لكن الأهم هو أسلوب التعامل معها للحد من مضاعفاتها، من هنا تقول “علا” إن محاولة منحهم مشاعر الأمان والاحتضان هي خطوة أولى لا بدّ منها، وكذلك إظهار التماسك أمامهم رغم صعوبة ذلك.
وقد شدّدت في السياق نفسه على ضرورة تبرير تصرّفاتهم وفهمها وعدم التقليل من قيمة مشاعرهم، وإعطائهم الفرصة للتعبير عن مخاوفهم ولطرح أسئلتهم وتصحيح المفاهيم لديهم.. فكل ذلك يجعلهم أكثر قدرة على التخطّي. وبين أبرز طرق المساعدة، تأتي محاولة إبعادهم عن مصادر المعلومات كالتلفاز والسوشيال ميديا، مقابل تشجيعهم على التعبير من خلال الرسم او اللعب او إعادة الحدث بتمثيله، لمساعدة الطفل على استيعاب ما جرى.
ذهبت المتخصصة في العلاج النفسي علا خضر، للتأكيد على أنّ هذه الأعراض تتضاعف عند من عايشوا صدمات مشابهة في السابق، كالحرب في سوريا وتفجير المرفأ في لبنان، إذ أنهم استعادوا الحدث! ومن المهم جدًا أن نساعدهم على تجسيد مشاعرهم بالكلمات.
وقبيل الانتقال للحديث عمّن هم في مرحلة عمريّة متقدّمة، تأتي السيّدة ريما بظاظة التي فقدت ابنتها وزوجها في تفجير مرفأ بيروت، فأخذت على عاتقها تربية أطفالهما.. وتقول: لقد ارتعب حفيدي “محمد” بعد رؤيته لمشاهد الدماء على التلفاز، واستذكر ما أصاب والديه قبل فقدانهما، فعاد إلى حالته النفسية السابقة وبات يكرّر السؤال “أين بابا وماما؟” رغم علمه بوفاتهما!
كذلك تعبّر الأم “ريما العلالي” عن تأثير الحدث على أبنائها، فتقول “أطفالي باتوا يهرعون للاختباء عند اهتزاز أي شيء حولهم، إنّني أرى الحزن في أعينهم رغم منعهم من مشاهدة التلفاز، لكنّ السوشيال ميديا لا ترحم”، وتقدم مثالًا على حجم تأثير الصدمة عليهم: “ابنتي تحاول يوميًّا منع والدها من الخروج خوفًا من وفاته أو من أي طارئ يصيبها وهو ليس بجانبها”.
وبعد أن أجدنا بالحديث عن صغار السنّ، لكونهم فئة يصعب عليها فهم ما يحدث على عكس من يكبرونهم سنًا، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي ضرورة استعراض الخطوات التي تساهم في تخطّي الكبار لما يخالجهم من مشاعر خوف وقلق، بل وأعراض جسدية أيضًا..
قلم سياسي أجرى مقابلة مع معالجة نفسية أخرى وهي د.جويل، التي شدّدت على ضرورة الاستفادة ممّا سبق من نصائح وإسقاطها على الكبار أيضًا، إلا أنّها خصّصت نصائحها للكبار فقالت: “قلة النوم، الخوف، الاحساس بالترقّب من أي خطر، كوابيس الليل، البكاء.. جميعها أعراض مشتركة بين من تلقّوا هذه الصدمة”، لكنّها تتضاعف عند من فقدوا أحد افراد عائلتهم أو أصدقائهم، فتشمل ملامة النفس والشعور بالذنب، ومشاعر الغضب التي قد تتوجّه نحو الله”.
أمّا عن أبرز الأساليب النفسيّة التي يمكن معالجة الأمر من خلالها، فتقول د. جويل: “بداية لا بدّ من التسليم بأنّ هذه المشاعر طبيعيّة، وأننا يمكننا أن نكون ضعفاء في بعض المواقف، وأنّ أمر التغييرات التي تصيب نومنا وغذائنا ونمط حياتنا بديهيّة في هذه الحالات”.
الخطوة الثانية تتجسّد في تجنّب مشاهد الدمار والموت، مقابل تكرار توصيف الحادثة والمشاعر التي رافقتها، فذلك يسمح للدماغ بتحليل الصدمة وبالعودة إلى حالته الطبيعيّة، مع الحرص على استعادة روتين الحياة السابقة، كي يستعيد العقل توازنه وقدرته على التعامل مع الضغوطات. كل ذلك يأتي إضافة إلى ضرورة اللجوء لأسلوب المواجهة من خلال العلاقات الاجتماعيّة وتقديم الدعم والمساعدة للآخرين، إذ أنه يساهم في تفريغ الغضب وفي إفراز بعض هرمونات السعادة.
وفي إطار ذكر المساعدة وبعد الحديث عمّا يمكن فعله للتقليل من آثار هذه الحادثة المؤلمة على أنفسنا وعلى الآخرين، يستحضرني الجنود الذين يتعاملون مع الزلزال على أرض الواقع وفي المباشر، الذين يحاولون الصمود وكبت مشاعرهم بهدف إنقاذ الناس او تغطية الحدث ونقل الصوت إلى العالم.. إنهم المسعفون والصحفيّون!
مناهل السهوي صحافيّة سوريّة تعمل في لبنان، تقول لـ”قلم سياسي” إن الزلزال كان الصدمة الأولى التي عاشتها خارج سوريا، مشيرة إلى اختلاف تقبّلها للصدمات عن السابق، مبرّرة الأمر بأنه قد يعود لكونها كانت جزء ممّن تعرضوا لحوادث مشابهة، أمّا الآن فهي بعيدة.
وفي سياق الحديث عن تغطيتها للزلزال تقول “رغم الصدمة إلا أنّني وفي اليوم الأول كنت متماسكة وحاولت العمل والتغطية بهدوء، رغم مشاعر الألم والضياع! لقد عملت سابقاً على تحقيقات ومقالات تتعلّق بأزمات السوريين ومعاناتهم، والأمر يبدو أشبه بأن تتألّم مرتين”. وتضيف “لم أستطع حتى اللحظة فصل مشاعري عن عملي، لكنّ هذا لا يعني ألّا أقدم عملًا جيًّدًا، بل أجد أن نكون جزء من المأساة هو أن نرى بعيون الضحايا، وأن نخاف بقلوبهم وأن نفكر بأحلامهم، لا أريد أن يبدو الموقف رومانسيًّا بأي شكل فكلنا ضحايا. لكنني لست بخير، فأصدقائي لا يزالون ضمن المدن المنكوبة، وثمة أخ لصديقٍ لي مفقودًا في تركيا.. لقد انهرت بشكل كامل في اليوم التالي للزلزال”.
تستكمل مناهل حديثها عن المأساة “أن تكون قريباً جداً منها هو عبء صعب، لن أقول أني قادرة على الموازنة بين كوني ابنة تلك البلاد المنكوبة وبين كوني صحفيّة، أكتب وأتواصل مع الأصدقاء رغم شعوري بألم لا يحتمل، لكنني أعلم جيداً أن وجعي يبقى صغيراً ولا يكاد يكون شيئاً أمام ما يحدث في سوريا، وربما هذا الشيء الوحيد الذي يجعلني أتخطى ألمي بشكل ما وأحاول متابعة تغطيتي الصحافية، شعوري بأني يجب أن أفعل شيئاً، مهما كان صغيراً، حيث أعمل”.
ومن جهة أخرى وفي سياق تقديم المساعدة والدعم، نذكر مبادرة مختلفة عن المبادرات الماديّة التي تستبعد الجانب النفسي، ومع تأكيدنا على أهميّة ما يتم تقديمه من مساعدات، لكننا علينا ألّا ننسى ضرورة الدعم النفسي الذي ستظهر آثاره بعد مدّة قصيرة لا محال.
عبير شاليش هي سوريّة تعمل على مبادرة لدعم من تضرّر عن قرب أو بُعد نفسيًّا، فتقول “لقد كان للحرب في سوريا تأثيرها النفسي البالغ علينا، لكننا اليوم حين ننظر إلى السوريين من خارج البلاد نشعر بالعجز عن تقديم الإغاثة المباشرة، وقد يكون ذلك سببًا في شعوري بالحاجة الماسّة لاستبدال الأمر بتقديم الدعم نفسيًا.. خصوصًا أن الناس تهرع دومًا اللإغاثة المادية متناسية أهمية الشقّ النفسي”. وتستطرد “ثمّة فوضى عارمة حاليًا لجهة تقديم التبرعات التي أراها انفعالية وستنتهي مع مرور الوقت، من هنا تولّد لدي الدافع للإضاءة على أهمية الأمر”.
وعند سؤالنا عن مدى التفاعل مع فكرتها، استنكرت عبير الردود المتكرّرة التي تتمحور حول حصر التركيز على حاجة الناس من مأوى وثياب وأموال، وتشدّد على استمرارها في هذه المبادرة وعملها على محاولة جلب الدعم من بعض الدول العربيّة.
وبعد ذكر ما يمكننا تقديمه لأنفسنا وللآخرين للتخفيف من وطأة الألم الذي يكبّل أعماقنا، يبقى أن نوجّه سيوف انتقادتنا إلى الحكومات، لجهة السياسات العمرانيّة الفاشلة الهادفة لتحصيل المكاسب الماديّة، ولجهة التسييس واستغلال الأزمة بسرقة المساعدات، فالنظام السوري الذي ارتكب أفظم الجرائم على مرّ السنوات السابقة، لم يكٌ غريبًا عليه عرقلة تقديم المعونات، ترافقها ابتسامة وقحة ارتسمت على وجه بشّار الأسد خلال تفقده آثار الزلزال.
ثم يبقى أن نوجّه سيوفًا أخرى نحو السياسات التي عوّدتنا على تهميش صحّتنا النفسيّة، وأن نحتضن أنفسنا بكل ما أوتينا من حب وسلام!

المصدر
تيمه حطيط - مديرة مكتب SPI في بيروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى