مقالات

الزلزال.. وما أدراك بأسراره

كلما زاد عدد ضحايا زلزال الاناضول، وحجم الصور المروعة، لا سيما الاطفال منهم، كلما ارتفع ترتيب المأساة على لائحة الكوارث الطبيعية الأسوأ في تاريخ البشرية.. وتعمقت الأسئلة “الساذجة” التي تتكرر الآن حول كوكب الارض ومستقبله، وحول السيطرة المزعومة لسكانه على طبيعته ونظامه وحركته وما إذا كان للحياة على هذا الكوكب من نهاية، يوماً ما.

زلزال الاناضول الاخير، مثل غيره من الزلازل المدمرة، هو تذكيرٌ متجددٌ بأن الانسان الذي يدعي الهيمنة الشاملة على الكرة الارضية، ويزعم أنه يفهم بالمطلق شروط العيش عليها، ويطلق بدقة متناهية تقديرات مستقبلية علمية، ويقوم برحلات إستشكافية الى الفضاء المحيط بها، ما هو إلا مبالغٌ، أدمن على تضخيم إنجازاته العلمية المتواضعة، ولم يكتسب سوى القليل من المعارف والمعلومات التي كان يجهلها الاسلاف من البشر على مدى يزيد على ثلاثة مليارات سنة الماضية من الإقامة على هذا الكوكب.. والتي لا تقارن حتى بالعلوم التي انتجتها حضارات انسانية سابقة، وما زالت أسرارها ورموزها غير مكتشفة وغير مفككة حتى اليوم.

زلزال الاناضول، كغيره من الزلازل الكبرى، كان بمثابة ضربة موجعة، تقوض ذلك الادعاء المتكرر بأن الحضارة الانسانية الراهنة بلغت الحد الاقصى من التقدم، بعدما حققت انجازات علمية باهرة في مختلف المجالات، واكتسبت مهارات لم يسبق لها مثيل، وانتقلت من مرحلة تطويع الطبيعة وتكييف الحياة على الارض الى مرحلة توجيهها والتحكم المطلق بها، وتالياً البحث عن آفاق جديدة للعيش خارج كوكب الارض الذي بات مكتظاً بالسكان ليس إلا ومفتقراً الى الموارد الكافية لثمانية مليارات نسمة، والتوجه الى أحد الكواكب السيّارة من المجموعة الشمسية، وأولها كوكب المريخ القريب.

الزلزال المدمر الذي يقترب عدد قتلاه وجرحاه من المئة الف انسان، أعاد فجأة الحضارة الانسانية الى سطح الارض، وتكوينه، وجغرافيته، وسجلاته التاريخية غير المكتملة، وغير المحفوظة، وغير المكتشفة، مع أنها تقع تحت أقدام العلماء والخبراء والباحثين، الذين لم يتوصلوا الى رسم علمي دقيق لجيولوجيا الكوكب الذي يقيمون عليه، ولا لطبقاته وفوالقه وحركاتها وفورات غضبها أو سرورها. ثمة رسوم تقريبية مهمة، لكن هامش الخطأ فيها هو بحجم بلدان أو مدن كاملة، ولا تصلح لأي توصيات علمية ثابتة. أما جوف الارض فإن استشكافه فلم يكن يوماً مغرياً ولا مؤثراً، عدا تلك الكيلومترات العشرة او العشرين الاولى من تحت السطح، التي تحتوي على النفط والغاز والمعادن الثمينة، او التي تخرج منها حمم البراكين.. وكذا الامر بالنسبة الى الاستكشاف البطيء والمتعثر للقطب الجنوبي الذي يمكن أ، يجيب على الكثير من الاسئلة الأولية حول تكوين الارض ومقدمات الحياة البشرية عليها.

هذا “الخلل” في مسار العلوم الانسانية، الطبيعية، الذي افسح المجال لرحلات فضائية باهظة التكاليف، وباهرة الدعاية، لكنها غير ملحة وحتى غير مجدية، أخضع الارض وسكانها لسلسلة لا متناهية من الاساطير والخرافات المتوارثة من الاديان الثلاثة، او من الفلسفات السبع التي سبقتها، والتي لا تزال تمثل واحدة من أهم الموروثات الانسانية، وأوسعها انتشاراً، حيث تتحكم بسلوك غالبية البشر، ولا تقتصر فقط على طريقة تعاملهم مثلا مع ظاهرتي الخسوف والكسوف، أو بقية الظواهر الطبيعية، ولا تختلف كثيرا عن طريقة التعامل مع الزلازل والبراكين والاعاصير..ولا تستبعد ان يأتي يوم يخرج فيها الناس الى الشوارع حاملين المشاعل او الطناجر او حتى اجهزة المايكروويف، لطرد شياطين الارض وأبالسة السماء، قبل ان يعودوا الى منازلهم غير الصالحة للسكن، والمبنية على صدوع جيولوجية مخيفة، او المتراكمة كأبراج وعمارات سكنية مرتفعة، مخالفة لابسط شروط الحياة الانسانية.

الحياة على كوكب الارض كانت صعبة، وستبقى، حتى اذا تمكن ثمانية مليارات انسان من فهم وتجنب كوارث الطبيعة أو بالاحرى الاخطاء المتكررة التي شهدها الكوكب والتي تدحض بوضوح اليقين الشائع بأنه يسير وفق نظام أبدي، دقيق، إلهي، يحدد دورانه حول نفسه وحول الشمس، ويرسم المسافات التي تفصله عن بقية كواكب المجموعة الشمسية.. وهي كلها حقائق نسبية متغيرة، ولو ببطء شديد، وإيقاع منتظم، يمكن رصدها بطرق وحسابات علمية غاية في الدقة. لكن لا يمكن ترويجها الى حد التكهن مثلا أنه بعد ملايين السنين، لن يظل سكان الكرة الارضية، خاضعين لنظام تعاقب الليل والنهار وتبدل الفصول والمواسم وتغير محتويات غلاف الارض، بل ربما سيضطرون الى اعتماد نظام مختلف تماما..إذا عجزوا عن الانتقال للاقامة في كوكب آخر، حسب ما يوحي زلزال الاناضول الاخير، وحصيلته الانسانية المفجعة، وخيبته العلمية المعيبة، التي تبقي نحو خمسين مليون انسان في تركيا وسوريا ولبنان وقبرص..أسرى الفراغ الهائل في ذاك الجانب من الحضارة الانسانية، ورهائن الخرافة التي تزلزل الارض ومن عليها في كل مكان.

المصدر
ساطع نور الدين - المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى