مقالات

نجّنا من التاريخ!

يطبق علينا الرعب تكرارا، كلبنانيين، حين نتثبت من حقيقة مفزعة مفادها ان الزلزال الكارثي المدمر الذي ضرب تركيا و سوريا وكاد أن “يمحق” أجزاء أخرى من لبنان ويبيدها هو من أسوأ وأكبر وأضخم الزلازل في التاريخ. لا تقف الانفعالات لدى اللبنانيين على توجيه آيات الشكر الى الرب الخالق لكونه أنقذ لبنان هذه المرة، ولا عند التأسّي الصادق الحقيقي على الضحايا السوريين والأتراك في هذه الكارثة المرعبة، بل ترانا نذهب أبعد للترجّي ان يكفّ عنا التاريخ وينسانا بإراحته منا وإراحتنا منه. صارت الصفة التاريخية الملاصقة للبنان أشبه بلعنة الخط الزلزالي الذي صودف ان لبنان يقع عليه امتدادا لتركيا وسوريا.

ومع ان أي حدث غير الزلازل نفسها لا يقارَن بهذه الكارثة المخيفة التي حلَت بتركيا وسوريا وجعلت لبنان يرتجف لدقائق أمام شبح خطر الانسحاق تحت الأنقاض لولا “رحمة ربنا” وحدها، ترانا لم نتمالك ذاكرتنا الغضّة عن استعادة دقائق الرعب التاريخي المدمر أيضا في تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 الذي لا تزال “تردداته” تطغى على كل الواقع اللبناني حتى الساعة. كان ذاك أيضا ثالث اضخم انفجار تقليدي عرفه العالم وبدا ولو بالمساحة المحدودة التي ضربها قياسا بالمساحات الكارثية التي ضربها الزلزال في تركيا وسوريا اشبه بزلزال تاريخي أيضا تحت وطأة شدة عصفه التدميرية الموازية لزلزال مرعب.

لا نزعم ولا نرغب اطلاقا في “منافسة” دراماتيكية بين أي حدث لبناني تاريخي من صنع الطبيعة أو البشر والحدث المزلزل الراهن في تركيا وسوريا حيث نشهد ونشاهد مع العالم بأسره وقائع إنسانية مفجعة تعتصر منا القلوب. ولكن يتعين على من بقي لديه القدرة الباردة على التعمق في انفعالات اللبنانيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا ان يدرك أولا وأخيرا ان اللبنانيين سئموا فعلا من كونهم وكون لبنان على خط التاريخ الدائم كأنه قدر قاتل ومدمر بقدر الزلازل والكوارث الطبيعية التي لا تستأذن ولا تنذر ولا تطلق الإشارات الحمراء قبل وقوعها. ترجمت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين هذا البُعد بالتعبير الديني الايماني الذي بدا طافحا طاغيا بما لا يعكس فقط الصعود الهائل المتواصل للطبيعة الايمانية الدينية للبنانيين أولا وقبل أي شيء بكل طوائفهم ومذاهبهم، وانما أيضا ذعرهم المماثل حيال انعدام الحماية في أي حدث أو تطور يواجههم وهم عراة تماما من حماية الدولة في المطلق.

الزلازل التي تعجز عن مواجهة دمارها العاصف اكبر واعظم الدول المتطورة المالكة لكل البنى التحتية القادرة والصلبة كيف تراه لبنان يواجه خطرها في حاله الراهنة؟ تكاد تمر السنة الثالثة بعد تفجير مرفأ بيروت ولم تُستكمل بعد إزالة الركام والترميم وإعادة الاعمار لا في المرفأ ولا في المحيط المدمَّر من بيروت لان الفجور السياسي عندنا اقوى من كل انفجار وأشد فتكا من الطبيعة إياها حين تفلت حممها المدمرة. ما يجعل لبنان بلدا برسم الاحداث الدراماتيكية المفجعة، قبل الطبيعة، هو هذه الطينة “التاريخية” في تكلّسها وفجورها وقدرتها على منع قيام دولة الحماية للناس بالحدود الدنيا. فكيف لا تتملك اللبنانيين عقدةُ التخلص من الصفة التاريخية في كل ما يواجهون وآخرها الاستيقاظ ذعرا ورعبا في فجر زلزالي أعاد الى الذاكرة ان لبنان “مقدَّر” له ان يرتجف ذعرا ودوما عنه وعن سواه ومع سواه وفي كل حين!

المصدر
نبيل بومنصف - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى