مقالات

“إنكربت” وداتا هيئة إدارة السير… والشُبُهات ثالثتهما


الأنظار بجلّها تركّزت في الآونة الأخيرة على ملف التزوير في النافعة. لكن هناك، في هيئة إدارة السير، ملف آخر لا يقلّ أهميّة. شركة خاصة ناشطة بلا صفة تعاقدية نافذة. وكمّ كبير من التساؤلات. تبدأ بمصير الداتا (المُفترض امتلاكها من قِبَل الدولة حصراً) الموجودة في حوزة الشركة. وتمرّ بكيفية إدخال اللوحات عبر المرفأ وباسم أي شركة وباحتمال وقوع خروقات أمنية. ولا تنتهي بإشكالية إلزام المواطنين بالبصم من عدمه. فما هي قصة شركة «إنكربت»؟
نبدأ بعرض سريع لشريط الأحداث. وهي كثيرة. نتكلّم هنا على المناقصة التي أطلقتها هيئة إدارة السير والآليات والمركبات في لبنان لتلزيم مشروع إصدار رخص سوق بيومترية، رخص سير ولوحات سيارات، لاصقات إلكترونية، لوحات التسجيل الآمنة وبرامج مكننة للمعلومات. ونتكلّم بتحديد أكبر على الشركة الخاصة التي فازت بها: «إنكربت». فمنذ أن أعلنت وزارة الداخلية والبلديات في 16 تشرين الأول 2014 عن المناقصة تلك، حتى علت الأصوات المعارضة نظراً لانطوائها على العديد من الشوائب والبنود التي تطرح أكثر من علامة استفهام، خصوصاً أن أخذ بصمات الأصابع والوجه لا ينصّ عليه قانون السير ولا حتى الدستور اللبناني. فواجب الأخير حماية أمن المواطنين عبر القطاع العام وليس من خلال شركات خاصة. لكن، رغم ذلك، جرت المناقصة الدولية – عكس المناقصات الأخرى التي كانت تجري على صعيد محلي – بقيمة 185 مليون دولار أميركي لمدة سبع سنوات تنتهي مفاعيلها بتاريخ 2022/08/23، بحسب دفتر الشروط.

معارضة مزمنة

بدورها، أعربت نقابة مدارس السوق في لبنان عن معارضتها الشديدة استخدام الرخص البيومترية والبصمة متسائلة عن الأهداف التي تقف وراء ذلك. كما حذّرت من شبهات حول قيام شركة «إنكربت» باستجلاب جميع عناصر الخدمات من خارج لبنان. وبعد تمنّع هيئة إدارة السير عن الإفصاح عن معلومات حول عمل هذه الشركة، ما كان من النقابة إلّا أن تقدّمت بداية عام 2018 من جانب مجلس شورى الدولة – المخوّل النظر في القرارات والتعاميم الوزارية والمذكّرات وإبطالها – بدعاوى ضد هيئة إدارة السير ووزارة الداخلية والبلديات، منها طلب إبطال العمل برخص السوق البيومترية، وذلك ضمن ملف حمل الرقم 150/22. وفي إطار متابعة الملف، صدر عن شورى الدولة قرار في العام نفسه طلب فيه من هيئة إدارة السير نسخة عن العقد الموقّع بينها وبين الشركة المشغّلة (في محاولة للاستفسار عن مصدر الشرائح والسيستم والرخص واللوحات كما الفواتير واسم البرنامج المستخدم). فما كان من إدارة السير إلّا أن تقدّمت بدفتر الشروط الذي جرت المناقصة على أساسه. «هذا هو العقد الذي لدينا»، قالت يومها مدير عام هيئة إدارة السير، هدى سلوم. فهل العقد موجود فعلاً – وإن كان كذلك، فلِمَ لَم يتمّ إبرازه؟


«إنكربت» وما بعدها

وإليكم المزيد. فالملفّ أعلاه يبيّن كيف توجّه وفد من هيئة إدارة السير إلى أوروبا في العام 2015 للبتّ بالمناقصة التي تتضمّن خمس خدمات مختلفة. لكن من رست عليه الأمور حينذاك كانت شركة «إنكربت». وقد أجرت هيئة إدارة السير المناقصة منفردة كونها تتمتّع بنظام مالي خاص يخوّلها ذلك، وسُمّيت مناقصة دولية (لا محلية). فَمَن تكون شركة «إنكربت»؟ هي شركة طباعة لبنانية قابضة (Holding) – تملك حصصاً ضمن رأسمال شركات أخرى – رئيسها هشام عيتاني. ومن الشركات المندمجة ضمن «إنكربت»، نذكر شركة «تكنولوجيا المستقبل» المملوكة من عائلة النائب السابق هادي حبيش (وهي طبعاً ليست ظاهرة في هذا السياق للعلن)، وشركات أخرى خارج لبنان كون المناقصة دولية. فهناك شركة «SafeNet» المسؤولة عن جمع المعلومات، وشركة «Oberthur Technologies» التي باعت الشرائح والبرنامج واللواصق لهيئة إدارة السير. وللشركتين بحسب المعلومات نشاط في فلسطين المحتلة، ما يشكّل خرقاً لقانون مقاطعة البضائع الإسرائيلية الصادر عن وزارة الاقتصاد.

نتواصل مع رئيس نقابة مدارس السوق في لبنان، حسين غندور، لنعرف أكثر. ففي حديث لـ»نداء الوطن»، أكّد غندور أنه بعد اعتراض نقابة مكاتب السوق بشكل رسمي لدى مجلس شورى الدولة، وبعد تبادُل المعلومات الخطيّة بينها وبين هيئة إدارة السير، أصدر رئيس مجلس شورى الدولة آنذاك، القاضي شكري صادر، قراراً يطلب فيه معلومات عن الشركة المشغّلة. وبرز حينها اسم شركتي SafeNet» و»Oberthur Technologies». «عندها، توجّهنا باتّهام مباشر أمام هيئة إدارة السير عن علاقة الشركة بإسرائيل، خاصة بعد أن تبيّن أن رخص السير والسوق تحتوي على شرائح تعمل على حرارة الجسم ومصنوعة من شركة Oberthur المندمجة في شركة Gemalto التي كان الإسرائيلي آري بو زبيب يشغل منصب نائب المدير التنفيذي فيها»، والكلام دوماً لغندور.


أين الداتا؟

«أثناء السجالات بيننا وبين هيئة إدارة السير، ومن خلال تبادل اللوائح بحسب ما نصّ عليه القانون، تبيّن لنا أن البضاعة تمّ استجلابها من خارج لبنان من قِبَل جهات أجنبية وأدخلت عبر المرفأ بغير اسمها. كما أن السيستم المستخدم جُلِب من الخارج وتتمّ إدارة تشغيله وإصلاحه عند وقوع أي عطل من خارج لبنان». يخبرنا غندور مضيفاً أنه، بعد التدقيق في دفتر الشروط، لم يتبيّن وجود أي مستند أو نص قانوني يفيد بأن المعلومات يتم حفظها في الإدارة أو في أي جهة رسمية أخرى، لا بل أن هيئة إدارة السير اعترفت خطياً في الملف رقم 150/22 بأن الشركة المشغّلة هي التي تحتفظ بالداتا لتسلّمها في ما بعد إلى الإدارة.

نسأل هنا غندور عن الجهة المالكة للداتا، فيجيب: «من خلال البحث الذي أجريناه تأكّدنا أن لا داتا نهائياً في هيئة إدارة السير إذ هي ما زالت جميعها لدى شركة «إنكربت». وحين تم تكليف العقيد علي طه رئيساً لمصلحة تسجيل السيارات، جمعتنا جلسة رسميّة به حيث طلبنا منه أن يكون هناك محضر رسميّ بها. لكنّ طلبنا جوبه بالرفض. ثم سألناه إن كانت هيئة إدارة السير على بيّنة من أسماء موظفي شركة «إنكربت» فأجاب بالنفي. ولمّا سألنا إن كانت الهيئة تملك نسخة من العقد، فكان النفي سيّد الموقف أيضاً». ويأتي السؤال الذي لا يقلّ أهمية: هل من المقبول دخول وخروج موظفين إلى مكاتب الهيئة دون معرفة هويّاتهم؟ على أي حال، عقد الشركة «المزعوم» منتهي الصلاحية منذ 2022/08/23، بحسب دفتر الشروط. وهي بقيت بموظّفيها بحجة تسيير المرفق العام. واللافت أكثر هو استبعادها عن التحقيق في ملف النافعة الذي فُتح مؤخراً على مصراعيه، دون أي استدعاءات، رغم أن ثمة معطيات إلكترونية معلوماتية في طياته. لكن هذا سؤال آخر نطرحه لاحقاً على مصادر قضائية مختصة.



عقد… لا عقد

عمل مشبوه ومغطَّى من جهات داخلية. هكذا يصف غندور عمل شركة «إنكربت». ويتساءل: «أليست الشركة من أدخلت المعلومات وسطّرت رخص سوق لأشخاص خارج لبنان؟ فَمَن يكون مرتكب الجرم؟». هو يؤكّد امتلاكه مستندات تظهر كيفية قيام البرنامج المستخدم في هيئة إدارة السير عبر الشركة بإعطاء أرقام مكرّرة للسيارات – أي رقم اللوحة نفسه لسيارتين مختلفتين. وهذا يحيلنا إلى سؤال آخر: من المستفيد من إقفال إدارة السير، ومِن مصلحة من التجوّل دون أوراق سيارات ولوحات؟ والحال أنّ كل ذلك يحصل تحت شعار إضراب موظّفي الإدارات العامة. كذلك ثمة من يذهب أبعد ليعتبر أن شركة «إنكربت» «محتلة» للعمل داخل هيئة إدارة السير دون عقد، وهذا ما سمح لها بالتحكّم بالداتا والتلاعب بتاريخ انتهاء خدماتها. «نحن من أعطى العميد طه دفتر الشروط، ما ينفي ادّعاءاته حول امتلاك نسخة عن العقد. كما طلبنا منه تسطير محضر بالجلسة لكنه تمنّع عن ذلك، ما أجبرنا على إرسال المحضر له عبر «ليبان بوست». نتمنّى منه أن يجيبنا خطياً في حال امتلاك أي جهة من الجهات الرسمية المحلية داتا المعلومات»، كما يطالب غندور.

هو سيل من أسئلة لا تنتهي ضمن إخبار تمّ تقديمه منذ أقل من شهر من قِبَل نقابة مكاتب السوق إلى النيابة العامة المالية حول (احتلال) «إنكربت» المرفق العام وانتهاء صلاحية عقدها وضرورة إخراجها من الإدارة. علماً أن الفوضى لم تقف عند هذا الحدّ. فعن سؤال حول الجهة المخوّلة إعطاء الأوامر للشركة المشغّلة، يجيب غندور: «الإدارة الممثلة بالمدير العام ورئيس المصلحة هي التي تعطي الأمر شفهياً دون الاستناد إلى أي طلب خطي رسميّ أو قانونيّ. وقد أكّد وزير الداخلية ذلك من خلال كتاب رسمي أرسلناه له بهذا الخصوص». فهل من يعي خطورة هذا الإجراء أيضاً؟

نكتفي بهذا القدر مع غندور. فأثناء بحث الملفّ على طاولة مجلس شورى الدولة، كان القاضي صادر متّجهاً لمنع إبقاء الشركة داخل الإدارة، إذ لا يحقّ لها استخدام المرافق العامة دون عقد قانوني. وقد أعطى يومها مهلة شهر لتنفيذ القرار لإصراره على معرفة مصدر الشرائح والسيستم. لكنّ مجلس الوزراء أقصى القاضي صادر عن مهامه في رئاسة مجلس الشورى بعد فترة وجيزة. وهكذا بقي مصير الملفّ مجهولاً بعدها رغم مطالبة نقابة مكاتب السوق المستمرّة بالمتابعة الجدية.

ماذا يقول القاضي صادر في هذا الإطار؟ وما رأي هيئة إدارة السير حيال ما أوردناه؟ ما سبب أخذ بصمات المتقدّمين لحيازة رخصة سوق ممن تقلّ أعمارهم عن 60 سنة فقط؟ وهل على القضاء ملاحقة الشركة المشغّلة بسبب إمكانية تورّطها بعمليات التزوير التي تمّت على أثرها التوقيفات الأخيرة في ملف النافعة؟ جزء ثانٍ يجيب عن هذه الأسئلة.

المصدر
كارين عبد النور - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى