إقتصادمقالات

محاربة التضخم أولوية

عاد التضخم ليشغل فكر الحكومات والمصارف المركزية والرأي العام. كانت هنالك بذور تضخمية قبل الحرب الأوكرانية، لكنها أصبحت أخطر بكثير معها. أتت المشكلة الصحية الصينية لتضيف حدة الى المخاطر المالية الحالية. يؤثر الوضع الصيني على سلاسل الامداد، أي تحديدا على عرض العديد من السلع وخصوصا الالكترونيات الضرورية لتشغيل الآليات من السيارات الى الخليوي. تحديد كمية الصادرات الأميركية المتطورة الى الصين يضيف الى المشكلة. يفهم العالم اليوم أيضا أهمية تايوان الصينية على صعيد الانتاج العالمي.

التضخم هي مشكلة العالم الأولى وتعطي الدول أهمية كبرى للمواجهة الصعبة ارتكازا على العلوم المتطورة والتجارب السابقة. السؤال الأهم هو هل يمكن العودة الى أوضاع ما قبل الحرب الأوكرانية أي الى أجواء استقرار محدودة تسمح للجميع بالعيش بمستوى أفضل مما هو عليه اليوم؟ هنالك جهود كبرى تبذل دوليا لمحاولة الرجوع الى الوراء بأقصى سرعة ممكنة أو بالأحرى انقاذ ما يمكن انقاذه بأقل التكلفة.
تحاول المصارف المركزية المواجهة عبر رفع الفوائد لتخفيف الاقتراض وبالتالي رفع الضغط عن الطلب الذي يساهم في رفع الأسعار. خطورة هذه السياسات، اذا مورست من دون حذر وتنبه، هي ايقاع الاقتصادات في الركود القاسي أي المزيد من البطالة والفقر والغضب الشعبي والمعيشي. يقوم المصرف المركزي الأميركي بدور القيادة في هذا الاطار ونجح جزئيا حتى اليوم أي أن نسبة ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك انحدرت وهذا جيد مؤقتا. انخفض أيضا نمو الناتج المحلي الاجمالي، لكن هنالك مؤشرات مهمة ايجابية كنسب البطالة.
ما سبق يعني أن الانتاجية تدنت أي انتاج الفرد الأميركي الواحد انخفض مما يؤثر سلبا على نمو الاقتصاد على المدى الطويل. ما يرفع الانتاجية هو التجدد والاستثمار في البحوث والتكنولوجيا والمعرفة. من السياسات التي اعتمدت سابقا ليس فقط بسبب الكورونا، وانما لتأثيرها الايجابي على الانتاجية وهي العمل عن بعد. أما اليوم، بدأت الشركات بالطلب من موظفيها القدوم الى المكاتب ولو جزئيا لأن التواجد مع الزملاء في نفس المساحة يعطي أجواء ايجابية للجميع. في كل حال، المطلوب من الشركات ايجاد مصادر وأفكار جديدة للنمو، وهذا ما لم يحصل بعد. من الأفكار المطروحة ازالة كل العوائق أما عولمة كل الخدمات من الطبية الى القانونية والاقتصادية والمالية وغيرها. من الأفكار الأخرى تحويل الاقتصادات تدريجيا الى خضراء أي الاستثمار في الطاقات النظيفة تخفيفا للتلوث وتغييرا لطرق الانتاج حتى لو كانت التكلفة مرتفعة في البداية.

في نفس الاطار تقوم المصارف المركزية الأساسية الأخرى كالأوروبي بنفس السياسات، لكن أوروبا ما زالت متأخرة وهي قلقة بالنسبة لامدادات الغاز الروسية وتجاه امكانية امتداد الحرب الى ما بعد أوكرانيا. هنالك العديد من المصارف المركزية التي تربط عملاتها بالنقد الصعب خاصة بالدولار وربما باليورو. في تلك الدول تتحرك فوائدها الداخلية مع فوائد العملات التي ترتبط بها، أي ليست لها سياسات نقدية مستقلة. هذا يؤدي في رأيها الى نوع من الاستقرار دون أن يكون الحل المناسب الدائم بسبب اختلاف الأوضاع بين الرابط والمربوط به.
أما الحكومات، فدورها أساسي عبر سياساتها المالية أي الانفاق والايرادات ومنها الضرائب على وجه التحديد. وضع السياسات المالية يحير الحكومات، اذ أن أداتها الأولى لمحاربة التضخم هي تخفيض نمو الانفاق أو تخفيض حجم الانفاق وهذا أجدى بكثير. اذا فعلت ذلك ستضحي بالفقراء الذين يحتاجون الى مساعدات كبيرة أو الى انفاق مباشر على حاجاتهم الأساسية من صحة وتعليم وغذاء وغيرها. اذا ما العمل؟ هنا تكمن الكفاءة العلمية والمهنية والسياسية للمسؤولين عن هذه السياسة المهمة. من ناحية الايرادات ولمحاربة التضخم من الممكن أن تحاول وزارة المالية رفع الضرائب لتخفيف الانفاق، لكن هذا يضرب المستوى المعيشي للمواطن وخاصة للفقراء. هذا ليس سهلا في وقت تحتاج الحكومات الى مزيد من الايرادات للتدخل معيشيا، لكنها غير قادرة عليه. كفاءة المسؤولين في الحكم تساعد على تجنب الأسواء.
أما الشركات فدورها كبير في هذه الظروف عبر التسعير المنطقي، كما عبر اعتماد الأخلاق وحسن التصرف في كل شيء أي عمليا عدم استغلال المواطن في معيشته. عالميا هنالك حذر كبير من سياست الشركات المتهمة باستغلال المواطن في ظروف صعبة جدا. على هذه الشركات الدفاع عن نفسها اذا كانت بريئة، أو أن توقف ممارساتها السيئة اذا كانت تقوم بها. في كل حال، يجب أن تطبق سياسات المنافسة في كل الظروف، ولا بد من تنفيذ كامل لكل القوانين التي تحمي الانسان.

أما المواطن فدوره لا يقل أهمية بل عبره تطبق كل القوانين وتعدل أو تلغى. هو أساس الاقتصاد ويجب الاتكال عليه في الاصلاح. يجب على المواطن أن يفرض التصحيح وحسن المعاملة عبر الممارسات الديموقراطية أي الانتخابات والمطالبات العلنية والقانونية، والا لن تستقيم الأمور. على المواطن الاهتمام بحقوقه وعدم التنازل عنها لأن لا شيء يساوي كرامة العيش والحياة.
من منا لم يعجب بشجاعة شعب سريلانكا ومطالبته بحقوقه كاملة، ففرض تغيير المسؤولين بكل جرأة. تعيش سريلانكا في أسواء أزمة داخلها منذ الحرب العالمية الثانية، وكان المفروض على الحكام السابقين أن يقوموا بالاصلاحات المطلوبة لانقاذ الاقتصاد. لم يقوموا بها، وجاء وقت الحساب أي الاقالة أو الاستقالة والهروب من البلاد. مارست القيادات السابقة أسواء السياسات ولم تقبل باقتراحات صندوق النقد الدولي وغيره ومارست كل وسائل الفساد على حساب المواطنين وحقوقهم ومعيشتهم. ما جرى في سريلانكا يجري في دول أخرى كالبيرو وهاييتي والامتداد الجغرافي متوقع.
من هم أكثر المتضررين من التضخم؟ حتما الفقراء وأصحاب الأجور في الدول الفقيرة والغنية، لكن بدرجات مختلفة ومع أوجاع متباينة، لكن الوجع يبقى حقيقيا.

المصدر
لويس حبيقة - اللواء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى