متقاعدو لبنان… معذّبون على قارعة وطن
هناك، في الصين، يؤدّي الجنود التحيّة إلى الكلب يوم يتقاعد، وهنالك، في روسيا، سمعنا عن كلب من فصيلة كورجي من الشرطة الروسية سيتوجّه بعد تقاعده إلى لعب الرياضة والرقص، وهنا، سمعنا بطائرة أقلعت من مطار رفيق الحريري الدولي في 11 كانون الثاني هذا إلى واشنطن، على متنها كلبان هما «مارغو» و»جينا» تابعان للسفارة الأميركية في لبنان بعد إحالتهما على التقاعد… وهنا، أيضاً وأيضاً، كثير من الصراخ من متقاعدين، بشر، لبنانيين، يموتون على أبواب المستشفيات، بعدما أكلتهم «المنظومة» لحماً ورمتهم عظاماً. هي حكاية شعب لبناني يموت في اليوم القصير مئات المرات.
«آه، وألف آه، لو كنت أعرف خاتمتي ما كنت بدأت»… هو أنين موظّف لبناني متقاعد يدعى «وجيه». ردّت عليه موظّفة تقاعدت: «وهذا لسان حالي: ربي إجعل هذه الأيام تمرّ ولا تضرّ، تعطي أكثر ممّا تأخذ، تُرح أكثر ممّا تحزن». المتقاعدون في لبنان هم الأكثر إيلاماً في الصورة الكاملة في لبنان الأسود اليوم. فهم خسروا كثيراً والمستقبل أصبح وراءهم. والحاضر قاتم كالح. ويأتيهم من يخبرهم: أن البلاد بحاجة لتستعيد عافيتها، إذا انطلقت اليوم، الى عشر سنوات بعد. فهل في عمرهم عشر سنوات إضافية؟ يا حرام.
المهندسون المتقاعدون
«عيب ما يحصل لنا». نبت الشعر على ألسنتهم وهم يردّدون ذلك لكن لا ضمائر لدى مسؤولين بالقوّة عنهم. فماذا يفعلون؟ وكيف يتصرّفون؟ وكيف يجعلون من لديه بعد قلب يشعر بهم؟ علي برو، الذي تقاعد، وهو عضو في نقابة المهندسين، بعد أربعين عاماً من العمل المرهق، قرّر أن يتوقّف عن الطعام «بلكي بيسمعوا». نصب خيمة أمام النقابة وأضرب عن الطعام وراح يعدّ أيامه: «ثمانية أيام بلا طعام فقط مياه ودخان» وفي اليوم التاسع انهار «أتى النقيب بالبيجاما وأصرّ أن ينقله الى المستشفى ووعده أن قراراً سيتّخذ غداً، يوم الأربعاء، في شأن المتقاعدين». يخبر ذلك ويضيف «عدتُ عن إضرابي لكني سأعود إليه إذا لم يصدر القرار الصائب». وكم في البلد أمثال علي برو.
هو أب لثلاثة أولاد، شابان مهندسان في فرنسا، والإبنة ماجيستير سياحة في الإغتراب أيضاً. ويوم صرخ غاضباً من معاشه التقاعدي الذي كان يساوي 900 دولار فأصبح أقل من مئة، قال له الناطق باسم صندوق التقاعد في النقابة: «ليش ما بتشوف ولادك ليساعدوك؟» أجابه: «أريد أن أعيش من راتبي. هو حقي. حقي أن لا أعوز أحداً حتى أولادي». هكذا هي الدولة والنقابات والمؤسسات يتّكلون على أموال المغتربين في إعالة أهاليهم بعدما انهار البلد وكل من فيه. هو الحلّ الأسهل لهم لكنه ليس حلاً لأهالٍ لم يعتادوا أن يكونوا عالة على أحد.
علي برو واحد من متقاعدي نقابة المهندسين وهناك 4000 متقاعد غيره. وحال هؤلاء جميعاً تنسحب على عشرات آلاف المتقاعدين في لبنان. وحال هؤلاء جميعاً حال. فهل تعرف «دولتنا» العليّة بمفهوم التقاعد الإجتماعي؟ نعرف أننا نتكلم مع سلطة عمياء صمّاء بكماء في ما يخصّ حقوق البشر ولا يهمّها إلا البحث عن مصادر دخل إضافية تحييها على جثث من يسمّون أولادها.
هؤلاء المتقاعدون يغنون اليوم مثل الطير المذبوح: «عنا المتقاعد بيعيش عيشة ذل وحقارة، لا دواء ولا طبابة، لا أكل ولا سيارة». وتنسحب المشكلة من متقاعدي القطاع الخاص على متقاعدي القطاع العام. أحدهم سأل: الى متى هذا الصمت المريب؟ الى متى هذا الإنكفاء المريب؟ ألم يصلهم بعد أخبار زملائنا المنتحرين، ووفاة أكثر من زميل نتيجة انفجار دماغي بسبب الضغوط أو قلة الرواتب والأجور؟ ألم يسمعوا بمن ألغوا من يومياتهم تناول أدوية القلب والضغط والمرض الخبيث إما لعدم توافرها أو لعدم قدرتهم على سداد ثمنها؟». هو يتكلّم من قلب موجوع لكن هل من يسمع أو يسمع ويبالي؟
له الله وحده
تأجيل الغضب
يقدّر عدد العاملين المسجّلين في ملاك القطاع الرسمي في لبنان بأكثر من 300 ألف عامل بقليل. وهناك 70 ألف متقاعد أغلبهم من العسكريين. هؤلاء يصرخون من قلب القلب، كما كلّ الآخرين، هذه حال البلاد المتخلّفة مثل بلدنا. ويأتي من يخبرنا عن تحرّكات في الشارع؟ ماذا ينفع بعد؟ الصراخ كثير و»المجازر» المرتكبة من دولتنا تتضاعف يومياً. وها هو الإتحاد العمالي العام ينذر بتحرك ليس اليوم الأربعاء بل الأربعاء المقبل، أي بعد سبعة أيام. هكذا هم يؤجلون الغضب أسبوعاً بعد أسبوع وحين يأتي «يوم الغضب» تصدر إشارة من مكان ما فيستريحون.
مفهوم المعاش التقاعدي هو الذي يمنح الموظف فرصة تحقيق الأمان المالي في التقاعد، وهو أحد مصادر الحماية الأساسية التي تشكّل مرتكزاً للمتقاعد عند انتهاء خدمته من العمل. وتتبدّى أهمية المعاش التقاعدي أكثر مع تدني وجود وسائط الحماية الإجتماعية و»أكل» المصارف ومن لف لفيفها المدّخرات. هناك من يقول الآن، حال المتقاعدين حال كلّ العباد في البلد. صحيح ذلك، لكن هؤلاء باتوا في المقلب الأخير من العمر «عند حافة قبرهم» كما قالوا، فهل مسموح أن يُذلّوا؟
هناك في البلد إتحاد عمالي عام. هو مسؤول بدوره عن مصير عمال كثيرين يتكلم باسمهم. هو سيتحرّك بعد أسبوع فماذا قد يفعل الآن ما لم يفعله من قبل وهو الغارق من زمان في موت سريري؟
المهندس علي برو عاد عن الإضراب وقد يعود إليه
الإتحاد العمالي
مقرّ الإتحاد العمالي العام شبه فارغ. الغرف «حفرا نفرا» فالطقس «هاليومين» بارد وأركان الإتحاد يخشون هم أيضاً من داء المفاصل. الإتحاد مسؤول عن عمال لبنان وهو قبل أن تسقط آخر ورقة من روزنامة 2022 زار نجيب ميقاتي للتباحث معه حول الإجراءات الضريبية المجحفة مقترحاً بعض التعديلات عليها. هي زيارة ودية. واليوم أركانه ورئيسه منهكون أيضاً في «الودّ الرسمي» في حين أنّ عمال لبنان يموتون. هو «سيغضب» يوم الأربعاء المقبل، وبين اليوم الأربعاء، والأربعاء المقبل سيتابع المولجون بأمر العمال «الضحك على الذقون».
أنا متقاعد. والمتقاعد ليس عاملاً. هو تقاعد على أمل أن يرتاح لكننا في بلاد أخذ أركانها عهداً على أنفسهم ألا يتركوا أحداً يرتاح فيها. فلنستمع مجدداً الى أنين المتقاعدين؟
تجمُّع متقاعدي قوى الأمن الداخلي نعى البارحة زميلاً له هو بلال أبو دله: إرتاح. أحدهم كال الشتائم سائلاً «معالي الوزير» والوزراء ورئيسهم والمسؤولين من أعلى الهرم حتى أسفله: «لماذا تبقون ما دمتم عاجزين؟ أنا ادفع ضريبة وميكانيك وجمرك وهاتف ومياه و… و… ووين حقوقي الإنسانية؟ لا أريد أن اشحذ يا حراميي. الساكت عن الحق شيطان أخرس وأنتم شياطين حمر. تفه تفه وألف تفه».
راتب الوزير
وزير الشباب والرياضة الدكتور جورج كلاس «شدّ على أيدي المتقاعدين» بكل فئاتهم وحكى عن حاله: «مخصصات الوزير باتت أقل من مئة وخمسين دولاراً والمتقاعدون، بشكل عام، لا تتجاوز معدلات معاشاتهم المئة دولار، فمن يطالب بحقوقهم؟ لذلك، أنا كوزير وأكاديمي أتعهد رفع مطالبهم ومتابعتها داخل مجلس الوزراء». هو كلام حقّ لكن أين يصرفونه؟
متقاعد آخر إستعان بمقولة أمين معلوف للدلالة على حاله: «متى تعرف أنك تائه؟ عندما تقف في بلادك وعيناك ترنو الى بلاد أخرى. عندما تقف في بلاد لم تنشأ فيها وعيناك ترنو الى بلادك. وعيناك على مستقبل تراه مستحيلاً. وعندما تبقى في بلادك وعيناك على ماضٍ لن يعود أبداً».
متقاعد آخر قال «أدخلت والدتي الى المستشفى بحالة غياب كلي عن الوعي بعد تعرّضها الى أربع جلطات متتالية لكن فضل الله علينا كان عظيماً. وأخبرنا الطبيب أنها متوقفة عن العلاج الدائم منذ أكثر من ستة أشهر وهذا خطأ مميت يجب الإنتباه إليه كل ذلك رأفة بي وبراتبي الذي يساوي 65 دولاراً بعد خدمة 26 عاماً في المؤسسة العسكرية».
نعود الى المتقاعد علي برو. هو كاد يموت بعدما أضرب عن الطعام في سنّه. هو ينتظر اليوم ما سيؤول إليه إجتماع نقابة المهندسين فإمّا يعود إليه الرمق أو يضرب مجدداً عن الطعام. هو ثمانيني وميّت في الشكل. ويقول: «البارحة نعينا إثنين من زملائنا المتقاعدين، في الخمس الخامس من عمرهما، في نقابة المهندسين ويبدو أن النقابة، كما كل زميلاتها، تراهن على موتنا لترتاح». المتقاعدون يعيشون أصعب رحلة في عمر يفترض أن يكون زهرياً. وهذا ما لا تقبل به حتى الكلاب في العالم. فهل سمعت- وتسمع- السلطات في لبنان أنينهم؟