عربي ودوليمقالات

الشرطة الأميركيّة و”العنصريّة المعلّبة” وعقدة المظلوميّة

أعاد مقتل الأميركي من أصل أفريقي تايري نيكولز على يد خمسة عناصر من الشرطة في ممفيس هذا الشهر، طرح مسألة تعامل عناصر الشرطة بعنف مفرط في بعض الأحيان خلال توقيفهم مشتبهاً فيه يُقاوم اعتقاله. وهذه إشكالية لا بدّ من مقاربتها من زاوية مهنية وإنسانية متوازنة لايجاد السبل الكفيلة بتقليل احتمالات مقتل مشتبه فيهم على يد الشرطة من غير وجه حقّ مستقبلاً، بعيداً من استغلالها للاستثمار في اللعب على وتر “العنصريّة ضدّ السود” المفتعلة للدفع بأجندات راديكاليّة لجماعات مؤثرة.

وفي هذه القضايا، غالباً ما يُسارع قسم من الأميركيين، لغايات باتت معروفة، والمعادين للولايات المتحدة، بحرف النقاش من “تحسين أداء الشرطة لمكافحة الجريمة بشكل أفضل” إلى الحديث عن “عنصريّة ممنهجة متجسّدة بالنظام الأميركي”. وهذه الاتهامات بالعنصرية التي تأتي معلّبة وجاهزة على طاولة البحث، يستخدمها مطلقوها كسلاح ودرع في آن واحد لإغلاق الباب على أي حوار عقلاني، منطقي وحضاري في مقاربة القضايا الشائكة في الشارع الأميركي، الذي ينقسم بشكل عمودي عند أي استحقاق مفصلي.

لا شكّ أن العنصريّة موجودة في المجتمع الأميركي، كما هي موجودة في أي مجتمع آخر حول العالم. لا بل نجدها في مجتمعات أخرى بنسب تفوق بأشواط تلك الموجودة في المجتمع الأميركي. والعنصريّة لها اتجاهات متعدّدة، وهي بالتالي ليست في اتجاه واحد. فكثيرون يُحاولون جاهدين ربطها بشكل عضوي بـ”الرجل الأبيض” تجاه بقيّة الأعراق، لا سيّما السود. لكن العنصريّة لا تُميّز بين الأعراق، فأي تصرّف فوقي أو معاملة سيّئة أو تمييز سلبي على أساس لون البشرة من أي شخص كان تجاه “الآخر” المختلف، هو تصرّف عنصري.

صحيح أن الأميركيين من أصول أفريقيّة أكثر من عانوا من التمييز سابقاً في المجتمع، حتّى نالوا حقوقهم كاملة بعد مسيرة شاقة. وصحيح أيضاً أن تاريخ العبوديّة في الولايات المتحدة كما في غيرها من الدول والمناطق، له ثقله الذي ما زال يُشكّل عبئاً على الحاضر وربّما قد يُهدّد السلم الأهلي في المستقبل إذا لم يُعالج بشكل جذري. بيد أن عقدة الشعور بالمظلوميّة لدى شريحة واسعة من السود، خصوصاً في الدول حيث يستطيع هؤلاء تحقيق أحلامهم والوصول إلى أعلى المناصب والمراكز، كالولايات المتحدة بالذات، تدفع بأصحابها إلى الغرق في مستنقعات الماضي ومآسيه بدلاً من سبر أغوار المستقبل وتحدّياته.

عقدة المظلوميّة دائماً ما تُشعر صاحبها بأنّه مستهدف ومحروم وضعيف ومهزوم… ما يولّد حقداً جماعيّاً تجاه “الآخر” وشعوراً فرديّاً بعدم القدرة على تحقيق الذات، فيما بلاد “العم سام” مليئة بالفرص، وليس على المعنيين سوى التحرّر من هذه “العقدة القاتلة” والتفكير خارج إطار الدائرة المرسومة منذ زمن بعيد، وإقناع أنفسهم بأنّهم يستطيعون، بالعمل والجهد، تحقيق أحلامهم مهما كانت صعبة والوصول إلى حيث يطمحون مهنيّاً وفي نواحي الحياة كافة. وهذه المقاربة البنّاءة اعتمدها الكثير من أصحاب البشرة السمراء، وحقّقوا إنجازات في ميادين مختلفة، ربّما ما كانوا ليتمكّنوا من تحقيقها في أي دولة أخرى.

إنّ أكثر من دفعوا أثماناً باهظة في مسيرة التحرّر من العبوديّة، خصوصاً خلال الحرب الأهليّة الأميركية، هم من أصحاب البشرة البيضاء الذين قاتلوا للدفاع عن حقّ أيّ إنسان بالحرّية والكرامة، ومات عشرات الآلاف منهم في سبيل قناعاتهم هذه على مذبح قضيّة المساواة بين البشر، بغضّ النظر عن أصلهم. لهذا ولأسباب كثيرة أخرى، لا يجوز استحضار تاريخ العبوديّة ورمي اتهام العنصريّة تلقائيّاً ومن دون سبب موجب، كلّما قُتل رجل أسود على يد عنصر من الشرطة.

كلّنا نتذكّر قضيّة مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد عام 2020، إحدى أكثر القضايا التي أخذت بُعداً عميقاً، داخليّاً وخارجيّاً. فقد سارعت “المطابخ الإعلامية” آنذاك إلى استخدام “سلاح” العنصريّة، لكنّ قليلين أضاؤوا يومها على حياة الشرطي ديريك شوفين الذي تعامل بقسوة مميتة مع فلويد، كي لا تسقط حجج العنصرية من “رواياتهم المشوّقة” ويكتفون بـ”الحديث المملّ” عن تحسين سلوك الشرطة. فشوفين كان متزوّجاً من لاجئة من أصول آسيويّة ولدت في لاوس قبل أن تهرب مع عائلتها إلى تايلاند ثمّ إلى الولايات المتحدة. المسألة كانت متعلّقة بسلوك شوفين العنيف وليس بعنصريّة افتُعلت افتعالاً، لكنّ التركيز في نهاية المطاف كان منصبّاً على أنّ “شرطيّاً أبيض” قتل “رجلاً أسود”.

قد تكون أحد الأسباب في عدم تفجّر الشارع اليوم بعد مقتل نيكولز، كما حصل عند مقتل فلويد، إلى جانب أسباب أخرى، أن العناصر الخمسة الذين تسبّبوا في مقتل نيكولز هم أيضاً من أصول أفريقيّة، وكذلك قائدة شرطة ممفيس سيريلين ديفيس، فضلاً عن مسارعة السلطات إلى إقالة العناصر وتوجيه الاتهام إليهم وحلّ الوحدة الخاصة التي ينتمون إليها ومحاسبة المقصّرين. لا وجود لـ”عنصريّة ممنهجة متجسّدة بالنظام الأميركي” إلّا عند أصحاب “الحسابات الانتخابية” الشعبويّة. النظام الذي مكّن باراك أوباما من أن يُصبح أوّل رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة لولايتَين متتاليتَين، علماً أن أصحاب البشرة الداكنة لا يُشكّلون أكثر من 13 في المئة من المجتمع، ليس نظاماً يسمح للعنصريّة بأن تكون جزءاً من هيكليّته وتركيبته.

النظام المتشعّب محلّياً وفدراليّاً، حيث يحتلّ السود مواقع قياديّة بدءاً بالمجالس البلديّة ومروراً بالمقاطعات والولايات، ووصولاً إلى العاصمة واشنطن، لا مكان فيه للتمييز بين الأعراق، ولو أن العنصريّة موجودة عند جزء محدود نسبيّاً من المجتمع. و”المفتاح” المتوافر بيد السود كما بيد غيرهم، هو حقّهم في التعبير عن رأيهم بكلّ حرّية وحقّهم في الانتخاب وايصال ممثليهم إلى سدّة المسؤوليّة على كافة المستويات المحلّية والفدراليّة. ومن المعلوم بأنّ الأميركيين من أصل أفريقي يُصوّتون بغالبيّة ساحقة لمرشّحي الحزب الديموقراطي. وقد يكون “مفتاح الحلّ” لتغيير واقعهم في معظم “المدن الديموقراطية” حيث لهم ثقل ديموغرافي وازن، يكمن بمحاسبة ممثليهم المنتخبين وتجربة خيارات سياسيّة جديدة.

إنّ الانتشار الهائل للسلاح في المجتمع الأميركي وخطورة المنظّمات الإجراميّة، لا سيّما تلك المرتبطة بتجارة المخدّرات، يضعان عناصر إنفاذ القانون في موقف حرج وخطر يرفع لديهم الشعور بالخوف عند وجودهم في الميدان وتعاملهم مع مشتبه فيهم غالباً ما يكونون تحت تأثير المخدّرات ويُشكّلون خطراً على حياتهم وعلى أفراد المجتمع. فيلجأ عناصر الشرطة إلى استخدام أساليب قاسية تدرّبوا عليها في الأكاديميّات التي تخرّجوا منها لمعالجة الموقف الدقيق الذي يواجهونه، فتكون النتيجة مأسويّة في عدد محدود من الحالات بحقّ أفراد كان يُمكن تفادي قتلهم. لكنّ التدخّلات اليوميّة لعناصر الشرطة تُنقذ في المقابل حياة عشرات الآلاف سنويّاً، بينما تتمّ الإضاءة على قضايا شائكة بعينها لأهداف مبيّتة.

تضمّ الولايات المتحدة الأميركية حوالى 18 ألف كيان وهيئة مستقلّة للشرطة، لكلّ منها قواعدها الخاصة في الانتساب والتدريب والممارسات المسموح بها، في حين تبقى العبرة في ايجاد أرضيّة مشتركة بين الحفاظ على “النظام والقانون” في الشارع من جهة، وتعديل بعض القواعد ومراجعة التدريبات وتحسينها ومحاسبة العناصر العنيفي السلوك وطردهم من السلك عند الضرورة من جهة أخرى، بعيداً من الأفكار الأيديولوجيّة المعلّبة مسبقاً للاستخدام السريع في الصراع الداخلي على النفوذ والسلطة، والتي يحتلّ اتهام “العنصريّة” فيها مكانة خاصة لتحقيق مآرب مطلقيها.

المصدر
جوزيف حبيب - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى