محلي

هل الجيش اللبناني قادر على منع حمّامات الدمّ التي سيستولد عبرها لبنان الجديد؟

ليست نزعة تشاؤمية القول أن “لبنان الذي نعرفه قد لفظ أنفاسه ما بعد الأخيرة”. فالوقائع تفرض نفسها، وتنشر غسيلها كل يوم على حبل الآلام اللبنانية المتناسلة من حلول ترقيعية. لم يعد سرّاً أن محنة لبنان ليست فقط في طبقته السياسية، أي في أحزابه وتياراته الحاكمة والمعارضة وكتله البرلمانية وجمعياته. فلهؤلاء حضورهم الشعبي المتجذر طائفياً ومذهبياً ومناطقياً. ولم يعد سرّاً أن المنظومة الحاكمة باتت عاجزة عن إعادة إنتاج نفسها. فهي أمام كل استحقاق تحتاج الى ما يشبه العملية القيصرية لاتمامه. ولم يعد سّراً أن دعاة التغيير فشلوا في إحداث خرق ما أو ثغرة تشي بوجود ضوء في نفق ليس له آخر، سيّما وأن نتائج انتخابات المجلس النيابي الجديد، لم تسفر سوى عن مجموعة أقليات، لا أكثرية فيها حتى بين حلفاء افتراضيين، باستثناء أكثرية الـ 65 صوتاً لصاحبها حزب الله عند اللزوم.تحلّل الدولة وتفكك غالبية مؤسّساتها واختلاف فقهاء الدستور والقانون على تفسيرهما في كل شيء، مشهد سوريالي عرضت آخر حلقاته على مسرح القضاء الذي بدوره دخل طور النزع الأخير. فقرار المحقق العدلي طارق البيطار في استئناف عمله وفقاً لاستيلاده اجتهاد قانوني واصداره قرارات إخلاء سبيل لبعض موقوفي المرفأ، وأيضاً إصداره استدعاءات للتحقيق مع عدة شخصيات سياسية وأمنية وقضائية كمدعى عليهم، مثل رئيس الحكومة السابق حسان دياب والمدعي العام التمميزي غسّان عويدات وقائد الجيش السابق جان قهوجي ومدير الأمن العام عباس ابراهيم ومدير جهاز أمن الدولة انطوان صليبا وغيرهم، قرارات شكلت مفاجأة أشبه بقنبلة بحجم تفجير المرفأ غير منزوعة الصاعق، هزّت ارتداداتها أعمدة الدولة السياسية والأمنية والقضائية وصدّعت بنيانها المتصدّع أصلاً.قرارات عاجلها المدعي العام التمييزي المتنحي عن النظر بملف المرفأ نظراً لتضارب المصلحة، بقرارات مضادة أولها، عودته عن تنحيه وفقاً لاجتهاد البيطار إيّاه. وثانيها، طلبه من أجهزة الضابطة العدلية عدم تنفيذ قرارات المحقق العدلي. وثالثها، اصداره قرارات بالافراج عن كافة موقوفي المرفأ وليس بعضهم. ورابعها، إدعائه على المحقق العدلي وطلب محاكمته بجرم اغتصاب السلطة. وفيما عاب مدعي التمميز على المحقق العدلي ارتكابه أخطاء قانونية، أباح لنفسه الوقوع في نفس الاخطاء القانونية. ولدى التدقيق في تفاصيل قرارات المدعي العام بالإفراج عن الموقوفين شريطة منعهم من السفر، يتبين أن الموقوف محمد زياد العوف اللبناني المجنّس أميركيا قد غادر الى الولايات المتحدة بناء على قرار المدعي العام، وليس المحقق العدلي صاحب الاختصاص الحصري.

خلال الأشهر الماضية وفي حمأة الهجوم على المحقق العدلي وطلبات رده وكفّ يده، واكبته حملة تقول بأنه ينفذ أجندة أميركية، ليتبين بوضوح أن المحقق العدلي الذي سبق واجتمع مع السفيرة الاميركية وقضاة فرنسيين لم يستجب لطلبهم، لكن الذي استجاب للطلب الأميركي وسط اشادة لافتة من حزب الله هو المدعي العام غسان عويدات الذي سبق وسمع مع رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود من السفيرة الاميركية تهويلاً واضحاً بعقوبات في حال استمرار “التوقيف الاعتباطي” لموقوفي المرفأ.عملياً، استفاد من قرارات المدعي العام التي وصفها بعض النواب ورجال القانون بالانقلاب على القانون، كل من الأميركيين وحركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر لأن غالبية الموقوفين والمطلوبين للتحقيق هم من الموالين لهم. وعملياً أيضاً، أصبحت معرفة الحقيقة في انفجار المرفأ بعيدة المنال، ما دفع أهالي الضحايا للتعبير بوضوح عن فقدان ثقتهم بالقضاء اللبناني وعن سعيهم الى التوجه للمطالبة بتحقيق دولي في انفجار المرفأ.”الاحتكام الى القضاء” عبارة لطالما ردّدها المتمسكون بسلطة الدولة وقانونها، لكن بعد الضربة القاسمة التي تعرّض لها القضاء، ستختفي هذه العبارة من التداول. ففي لبنان لا يوجد قضاء عادل، بل قضاء استنسابي يعمل وفقاً لمشيئة المنظومة والقوى المتنفذة فيها. القضاء معطّل بدليل “غزوة القضاة الاوروبيين” للتحقيق في ملفّات المرفأ وتبييض الأموال مع مصرفيين لبنانيين كبار بينهم مصرف لبنان. القضاء معطّل لأن القوى المتنفذة في المنظومة حوّلت بعض القضاء الى ما يشبه الميليشيات تماماً. ولأن بعض القضاء والقضاة مستزلمين حد النخاع لأقطاب المنظومة. ولأن الصفحة الأنصع عاراً التي تكلّل جبين القضاء والقضاة تلك المتعلقة بمن اصطلح على تسميتهم بـ “الموقوفين الاسلاميين” الذين يقبع أغلبيتهم في سجون رومية وطرابلس وغيرها منذ سنوات بدون محاكمة. وهو الملف التمييزي بين المواطنيين والذي ضاعف من احتقاناته اطلاق سراح الموقوفين بتفجير المرفأ.

انهيار القضاء في لبنان، يستكمل حلقات الانهيار الاقتصادي والكهربائي والطاقوي والدوائي فضلا عن الانهيار المالي حيث وصل سعر الدولار لأكثر من 60 ألف ليرة. انهيار ممنهج يتناسل منه التدمير الذاتي للدولة، ويتسلل عبره دعوات لإعادة النظر بالنظام والتركيبة اللبنانية. واللافت أن من بين دعاة إعادة النظر بالنظام هم بعض المغالين بالتمسك باتفاق الطائف.بعيداً عن اتفاق الطائف والملتزمين به أو المطالبين بتعديله، حريّ بنا التأكيد أن لبنان الذي نعرفه انتهى. وأن وظيفة لبنان التاريخية قد انتهت. وأن لبناناً جديداً أخذ يعبّر عن نفسه ويفرض خطابه وأدبياته السياسية والثقافية والاجتماعية في لحظة لا تسمح فيها نسبة توازن القوى الاقليمية الحالية باعادة عقارب الزمن الى لبنان القديم. وحده التوازن والتفاهم بين القوى الاقليمية النافذة وخصوصاً ايران والسعودية ومصر فضلاً عن امتداداتهم الدولية، ما قد يسهم في رسم صورة لبنان الجديد في سياق خطوط النفوذ الجديدة في المنطقة في ضوء التطورات الدامية في فلسطين المحتلة المتزامنة مع قصف نوعي مجهول لمخازن مُسيّرات وأسلحة وزارة الدفاع الايرانية في أصفهان وغيرها.لكن هل الجيش اللبناني الممنوع من الانهيار، قادر على منع حمّامات الدمّ التي سيستولد عبرها لبنان الجديد؟.

المصدر
علي شندب -اللواء

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى