مقالات

مش أول ناس ماتوا..

لم يكن اللبنانيون يوماً، كما هم اليوم، حيوات عارية.
ليست هذه المرة الأولى التي يُضرب فيها القانون، من داخله ومن خارجه. صحيح. ليست المرة الأولى التي يترنّح فيها القضاء، بل ويسقط. نعم. لكنها المرة الأفدح، الأوضح، الأكثر فرقعة، ولو بكواتم الصوت. ليست المرة الأولى التي يصبح فيها الاستثناء هو القاعدة، مَربَط “السيادة” ومَنفذها شبه الوحيد، لكنها المرة الأقسى والأكثر صلفاً ووقاحة.

حتى الحروب لها قوانينها، إنما لطالما كان لبنان العبث الصافي، بأفراحه وأتراحه.
ما يحصل في ملف انفجار مرفأ بيروت، ليس خارج سياق كل جريمة اغتيال وتفجير وحرب في هذا التاريخ المشؤوم، حيث القضايا دوماً مبتورة، فيها ضحايا، ولا جُناة فيها، وإن ظهروا فبأسمائهم دون أجسادهم، بلا قصاص محسوس وملموس ومرئي. يظهرون فقط بحدس القتلى الصادق الفاضح، أو بالقرارات والأحكام التي لا تعدو الحَكايا. حكايا الزير سالم أو دونكيشوت، قلّة فرق. ومع ذلك، فملف المرفأ وجد طريقه إلى ما هو أقبح. جُعل درّة تاج الشوك المجدول مع الجرائم الكبرى بالانهيار السياسي والاقتصادي والحقوقي. قشّة القضاء، الأخيرة، السامّة، الهشةّ، انكسرت وتكسر ظهور الكلّ.. إلا من كان عضواً في نادي السيادة من مقرّري اللاسيادة.

في حالة الاستثناء، ودَولته، يصبح المُدمّى المتناثرة أشلاؤه، هو المُرتكِب. يُلاحَق، يُحبَس، يُدّعى عليه، يُعتدى عليه بالضرب. حياً أو ميتاً، يوضع خارج القانون، يَخرُج عليه القانون فينتفي القضاء متغولاً. وخارج القانون، تمسي الحياة عارية من كل حقوقها. حياة محضة، لا تملك حتى أن تختار البقاء أو الموت. فالسيّد هو الذي يقرر. مالك المُلك وسيّده، هو الناموس الوحيد المتبقي.

بموجب قوانين الإمبراطورية الرومانية، التي شغلت جيورجيو أغامبن طويلاً حتى اكتملت كتابته عن الـ”هومو ساكر”، كان مَن يرتكب نوعاً معيناً من الجرائم، يُعزل من المجتمع تُلغى حقوقه كلها، فيصبح للمفارقة “إنساناً مقدساً”. يمكن أن يقتل على يد أي شخص، بينما لا يمكن أن يكون أضحية في طقوس ومراسم. حياته مقدسة بمعنى انفصالها عن الكنه البشري، مثلما القديسون منفصلون عن البشر الفانين. لكنها القداسة كرمز لنقيضها، للاستباحة، ذلك أن الحياة المجرّدة هذه لا تليق بمقام الأضحية. إنها سبيل الكلام لتحقير حيوات هؤلاء “المقدسين” فاقدي الحقوق في ظل قانون صُوريّ أو معطّل إلى أجَل غير مسمّى. هؤلاء لا يُرَون جديرين بأن يكونوا أضاحي للإله، للآلهة.

سلطات الأمر الواقع، سلطات الاستثناء، الحالة و”الدولة”، السلطات التي تملك تعليق القانون وتفعل ذلك بأساً وبؤساً، تعلّق صور أضاحيها الأقحاح في الشوارع. ترسلهم إلى الموت ويذهبون مؤمنين أو سوى ذلك. ثم تجلّهم وتقدّس ذكراهم. وتُحتضن عائلاتهم، ورثة الأضاحي، ما أمكن، ومجدداً بحسب النفوذ والصّلات واستمرارية الرغبة في تقديم المزيد من القرابين البشرية والسياسية، الاجتماعية والإعلامية، وحتى بالمشاعر والولاء. وولاء الأضاحي لا يعلوه ولاء. وهذا هو أكثر ما يهم الحُكم الوليّ القادر، صاحب القوة، العارية كما حيوات العراة وذويهم المطرودين من قانون مُعدَم.

الحياة البشرية مشمولة في النظام القضائي فقط في شكل استبعادها، أي القدرة على قتلها، مرة بعد مرة.

“مش أول ناس ماتوا، في كتير عالم ماتت بلبنان على مدى الأيام”، قالها “القاضي” غسان عويدات لشقيقة أحد ضحايا المرفأ. الحقيقة أنه عرّى حياة شقيقها، وعرّى حياتها، وعرّى حيوات ملايين اللبنانيين، مَن ماتوا، ومَن ُهم مشاريع أموات عُراة. هذه هي الحقيقة. أما المشكلة فهي أن كلامه دقيق، وأن القاضي هو القانون، وأن القانون أيضاً ميت وعارٍ.

المصدر
رشا الأطرش - المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى