مقالات

“الإنقلاب القضائي” بتواطؤ داخلي وخارجي.. سيتكرر بكلّ الإستحقاقات

أدى الزلزال القضائي الذي شهده لبنان في قضية تفجير مرفأ بيروت، إلى نتيجتين ستستمر تداعياتهما طويلاً. النتيجة الأولى، هي تحقيق انقلاب جديد يمكن وصفه بـ”7 أيار” قضائي، أو توصيفات كثيرة مشابهة. لكن الأكيد أنه تكاتف بين قوى السلطة لإنجاز هذا الانقلاب وجعله مثالاً قابلاً للتكرار في استحقاقات لاحقة، رئاسية أو حكومية أو غيرها. أما النتيجة الثانية، فهي إعادة إحياء السجالات وطرح التساؤلات حول حقيقة الدور الخارجي في ما اندفع إليه البيطار، وصولاً إلى ردّ الفعل الداخلي عليه، والذي أدى إلى اطلاق سراح موقوفين، والوصول إلى واقع عدم وجود أي موقوف في قضية تفجير المرفأ، بعد أكثر من سنتين على وقوع التفجير.

إسقاط السلطات تباعاً
بالنسبة إلى النتيجة الأولى، فما جرى يدلّ على حجم الانهيارات المتوالية التي يعيشها لبنان. وقد وصلت إلى حدود إسقاط السلطة القضائية، بعد إسقاط ما تبقى من سلطات سابقاً. وكأن الهدف هو إسقاط كل مرتكز من مرتكزات البلاد. وهنا لم يعد يجدر إغفال الصراع بين قائد الجيش جوزيف عون ووزير الدفاع موريس سليم، والذي يؤسس إلى سوابق خطرة تطال المؤسسة العسكرية. وهذه السوابق تسجّل تباعاً منذ عرقلة توقيع مراسيم ترقية عمداء دورة العام 1994، وصولاً إلى عرقلة ترقيات مختلف الضباط مؤخراً. وهذه الوقائع التي تطال المؤسسة العسكرية لم تحصل حتى أيام الحرب الأهلية. كذلك فإن الصراع المفتوح والتنافس بين قائد الجيش ووزير الدفاع لم تشهده المؤسسة العسكرية من قبل.

إبان الحرب الأهلية في العام 1975 انقسم الجيش اللبناني وتعرض لانشقاقات كثيرة. فاندفعت الحرب بأشكالها العبثية والدموية. أما حالياً، فإن الانهيارات والانقسامات تطال القضاء، ليصبح الصراع بين القضاة والمجالس القضائية والمحاكم، على وقع الانهيار المالي والاقتصادي. وهذا كله لا يبدو أنه بحاجة إلى المعارك العسكرية ليحل الخراب. وحقيقة ما يجري هو حرب أهلية فاقدة لأدوات إطلاق النار، ومع ذلك قادرة على التدمير. وكأن كل السلطات أو المؤسسات تتساقط بفعل الصراعات الداخلية.

مصالح داخلية وخارجية
ونزولاً عند النتيجة الأولى أيضاً، فإن السؤال الأكثر طرحاً يتعلق بإمكانية وجود دوافع خارجية قادت إلى ما تحقق، لا سيما في ضوء الضغوط الأميركية التي مورست لإطلاق سراح أحد الموقوفين، وهو زياد العوف حامل الجنسية الأميركية. تحت هذا الضغط، وصل التنافس القضائي إلى حدّ التسابق على من يعمل على إطلاق سراح الموقوفين. فكانت النتيجة ارضاء الجميع في عمليات إطلاق السراح، مقابل الوصول إلى نتيجة أخرى وهي اجهاض التحقيقات وإنهائها، بتقاطع مصالح داخلية وخارجية.

هنا يتضح أيضاً أن كل الدول التي كانت تشير إلى التشديد على ضرورة استكمال التحقيقات تغاضت عن كل ما جرى لإطلاق سراح الموقوفين.

بذلك تكون السلطة الداخلية قد نجحت في تحقيق انقلابها القضائي. ولكن السؤال الأكبر عن ما حصل في القضاء، أنه لم يعد من المانع لتكراره من قبل السلطة نفسها، في مسألة التجديد لحاكم مصرف لبنان مثلاً، كما أن ذلك يمكن أن يكون قابلاً للتحقق في انتخاب رئيس الجمهورية أو غيره من الاستحقاقات، بحال توفرت مصالح خارجية وداخلية وتقاطعت مع بعضها البعض. وهناك من يعتقد أن ما جرى معطوفاً على التحركات التي يشهدها الشارع والارتفاع المستمر بسعر صرف الدولار.. كلها ستقود إلى فرض تسوية سياسية في النهاية تتقاطع فيها المصالح الداخلية والخارجية.

الفخ..
بالانتقال إلى النتيجة الثانية، وهي خلق سجالات متجددة على الساحة الداخلية بين أطراف متناقضة، حول الأسباب التي دفعت إلى هذه الخطوات القضائية. ومن أبرز السجالات التي تشهدها الساحة اللبنانية، هو السؤال عن الأسباب التي دفعت القاضي طارق البيطار إلى العودة لاستئناف عمله، والكم الكبير من الاستدعاءات التي وجهها إلى شخصيات في مواقع ومراكز مختلفة، ما استدعى ردّ فعل متكامل بين أركان السلطة للانقلاب عليه وعلى التحقيق. وهذا الإنقلاب دفع بأبرز داعمي البيطار إلى طرح تساؤلات مشككة بالأهداف التي دفعته إلى العودة. هنا تتوسع السجالات، بين من يعتبر أن ما جرى هو عبارة عن فخ، وتقاطع مصالح بين أميركا وفرنسا من جهة وحزب الله والمنظومة من جهة أخرى، أدت إلى ما أدت إليه.

ومثل هذه السجالات سرعان ما تتوسع في لبنان، إزاء التعاطي مع أي ملف له بعد إقليمي ودولي، كما هو الحال بالنسبة إلى السجالات التي اندلعت قبل فترة حول ترسيم الحدود، خصوصاً حول اعتماد الخط 23 أو الخط 29، وصولاً إلى الاتهامات التي وجهت بالخيانة أو التنازل من قبل مجموعات ثورية أو ناشطة، كان خصومها يتهمونها بأنها محسوبة على الأميركيين والجهات الغربية، ومدعومة منهم، فيما الأميركيون والجهات الغربية عملت على الدفع باتجاه اعتماد الخط 23 وتعارضت مع الناشطين.
ما تعبّر عنه هذه الأمثلة هو الحجم الهائل من العبثية التي لا بد لها من خلق سجالات متوالية، تهدف إلى التعمية عن جواهر الأمور وحقائقها. وبالتالي، التلهي بها فيما يكون المسار الأساسي في مكان آخر.

العبثية السياسية
ومن تداعيات هذه السجالات ارتفاع منسوب العبثية السياسية في الطروحات التي يتقدم بها كثر، بين من يدعو إلى التدويل في ظل هذا الاهتراء، وبين من يدعو إلى التقسيم أو الفدرلة، للتخفف من أثقال الآخرين، فيما الواقع مغاير، لأن من يدعو إلى التدويل يتغاضى عن التقاطع الدولي مع الواقع الداخلي، في جلّ ما يحصل، خصوصاً أن الدول عندما تبدي اهتماماً بأي مسألة داخلية تتمكن من فرض ما تريد، من ملف الترسيم إلى ملف المرفأ. أما من يدعو إلى التقسيم أو الفدرلة، فيغيب عن باله أن حجم منظومة المصالح بين القوى السياسية كبير إلى حدود الإلتحام. وبالتالي، فإن كل ما يجري يندرج في سياق تخفيف الأثقال عن كاهل القوى السياسية والاستثمار في كل هذه الانهيارات، للوصول إلى إعادة صياغة تسوية سياسية تحمي مصالحها.

المصدر
المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى