مقالات

اجتماع باريس لا يخرق جدار الاستعصاء اللبناني الممانع… ومخاوف من انفجار أهلي وشيك وفوضى شاملة

تظهر الوقائع السياسية التي طبعت المشهد اللبناني في الأيام الأخيرة أن البلد يهوي نحو منزلقات خطرة تدخله في متاهة الفوضى وما يمكن أن يتخللها من تفلت يطيح بكل ما تبقى من مقومات لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة. الوضع الراهن يختلف عما مرّ به لبنان من فراغ بين 2014 و2016، إذ أن الازمات الحالية تتفاقم على مختلف الصعد، في غياب اهتمام خارجي مباشر بلبنان، على الرغم من الحراك الفرنسي لعقد لقاء باريس الخماسي، والذي تشيرالمعلومات إلى أنه لن يُعقد على مستوى رفيع، ويخصص لمساعدة الشعب اللبناني على تجاوز مشكلاته. وبينما لا تراهن قوى داخلية على أن يحسم اجتماع العاصمة الفرنسية عناوين سياسية، يتفاقم الانهيار داخلياً مع التراجع المستمر في سعر الليرة، والعجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم قدرة حكومة تصريف الأعمال على اتخاذ قرارات تساهم في التخفيف من حدة الانهيار.

التطورات على الأرض تنبئ بانفجار أهلي وشيك، ليس على شاكلة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ولا على طريقة الحراك الشعبي في ملفات محددة، كما حدث في 2015 حول “النفايات”، ولا حول جريمة انفجار مرفأ بيروت، إنما بسريان الفوضى التي تهدد كل البناء الاجتماعي والمؤسساتي في البلد. ولا يبدو أن الأطراف المتحكمة في الوضع اللبناني قادرة على قطع الطريق أمام الفوضى، وهو ما حذرت منه جهات دولية، من احتمال الانفجار، بل إنها تساهم باستعصاءاتها في ادخال البلاد والدولة في نفق مظلم، إلا بنظام جديد مختلف عن الصيغة الحالية، وهذا الأمر يحمل أخطاراً على البنية السياسية والاجتماعية والتوازنات الطائفية ويفكك ما تبقى من مؤسسات جامعة أو قادرة على وقف الانهيار.

ثمة من يعتقد أننا دخلنا في نفق التفكك. فما يحدث بين الداخل والخارج لا يعني أنه سباق لبلورة حل. فالقوى الداخلية وأن كانت تراهن على معطيات خارجية او رافعة تدفع الامور نحو التسوية، إلا أنها لا توفر وعاءً لاستيعابها. الانقسامات اللبنانية وصلت إلى حدود لم يعد ممكناً معها التوصل الى تسوية أقله في المدى المنظور، وهو ما يدفع الداخل الى الانفجار. والمشهد خير دليل على الأخطار التي تحدق بالبلد، إذ أن التوتر السياسي والطائفي بلغ اشده مع الخلاف حول هوية لبنان وتركيبته وطبيعة نظامه المقبل. ولا يقتصر الامر على الخلاف حول تحقيقات المرفأ والمواجهة المفتعلة بين أهالي الضحايا وأهال يالموقوفين، على ما يحمله ذلك من أبعاد، إنما تدفع سياسات بعض القوى، وفي مقدمها “#حزب الله” الممسك بملفات أساسية ومن بينها حكومة تصريف الأعمال، إلى استنفار قوى أخرى على المقلب الطائفي المقابل، والبحث عن صيغ أخرى للنظام ومعها تتنامى بقوة الدعوات إلى الفدرالية، وقد كانت واضحة دعوة القوات اللبنانية إلى البحث عن صيغة للنظام في حال نجح “حزب الله” بإيصال مرشحه لرئاسة الجمهورية.

الاختناق اللبناني الراهن تزيد حدته الاستعصاءات والتمترس خلف البيئات الطائفية والمواقف المتشددة حيال التسوية وانتخاب الرئيس. وحتى الآن لا توجد قوة قادرة على نقل لبنان إلى التعافي، طالما أن البحث بين الأطراف السياسيين يقف عند المصالح التي تربط لبنان بمحاور إقليمية لتحسين شروطها في المفاوضات. ويركز مصدر سياسي متابع على مواقف “حزب الله” وحركته تجاه قوى جديدة من بينها الحزب التقدمي الاشتراكي، بعد انسداد أفق التواصل مع التيار الوطني الحر. فقد رفع الحزب من سقف شروطه لانتخاب رئيس للجمهورية، متمسكاً بمرشحه سليمان فرنجية، من دون أن يترك مجالاً للبحث في مرشح آخر توافقي، على رغم اعتبار وليد جنبلاط أن لا اجماع داخلياً وخارجياً على فرنجية. علماً أن الحزب يدرك أن اي اتفاق مع جنبلاط ورئيس #مجلس النواب نبيه بري على الاسم لن يغير الوضع طالما ان الأطراف المسيحيين لا يؤمنون تغطية له. ولذلك لا بد لأي تفاهم أن يحصل بين الداخل والخارج لكسر الاستعصاءات القائمة.

ليس في وارد “حزب الله” أن يطرح اسماً آخر لتسوية رئاسية تفتح الطريق للتواصل بين القوى على المقلبين، وان كان يدعو الى التوافق والحوار ويخفف في المرحلة الراهنة من هجماته على دول الخليج. فلا خيار ثالث متبلور حتى الآن، مع الاستعصاءات المستمرة، خصوصاً بعد تغيّر الأصوات بين الكتل في جلسات انتخاب الرئيس. ومع إصرار “حزب الله” على مرشح ممانع يدفع الامور إلى مزيد من الانسداد. ولعل الكلام الاخير يوم الخميس الماضي للأمين العام للحزب حسن نصرالله، يعيد الأمور إلى المربع الاول، معتبراً أن السنوات الست المقبلة ستكون مصيرية بالنسبة إلى اللبنانيين، إذ “لا بد من انتخاب رئيس لا يكون لتعبئة الفراغ، رئيساً لا يخضع للضغوط الأميركية، ويكون قوياً وقادراً على اتخاذ القرارات”. ولم يكتف نصرالله بذلك بل حدد مواصفات الحكومة فـ”لا نريد رئيساً أو وزراء يقولون لنا اتصلوا بنا من السفارة الأميركية وطلبوا منا رفض القيام بهذه الخطوة أو تلك”.

الواقع أن نصرالله أعاد صياغة وإخراج ما لم يقله وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في زيارته الاخيرة لبيروت، ويدل وفق المصدر السياسي على أن لا تنازلات في الشأن الرئاسي من خلال الإصرار على “الرئيس المقاوم” وضد الأميركيين تحديداً، ومن الواضح أنه يبعث رسالة برفض التدخل في الاستحقاقات، ومنها إلى المساعي الفرنسية لعقد لقاء رباعي أو خماسي في باريس، فلا يمكن لأي بحث خارجي في الشأن اللبناني أن يصل إلى نتائج من دون إيران. وهكذا مُنح الغطاء لـ”حزب الله” لتحصين موقعه، بالتناغم مع تطورات المنطقة ومنها احتمال استئناف الحوار الإيراني – السعودي، وما يمكن أن يحمله للوضع اللبناني، وربط اي تسوية داخلية لبنانية بالتقدم على المحور الإقليمي، بخلاف ما يقال عن أنه مستعد للتوافق مع كل الأطراف.

انطلاقاً من ذلك تبدو المراهنة على احداث اجتماع باريس خرق في الجدار اللبناني، ضعيفة، وحتى لو رفع توصيات سياسية للحل، فإن الامر يحتاج إلى وقت طويل ومسار متعرج لانهاء الفراغ والشغور الرئاسي، فالتسوية تحتاج لتنازلات داخلية هي غير متوفرة، كي تلاقي الحل الخارجي للأزمة اللبنانية. فالوقائع تؤكد استمرار التصلب في المواقف وأن البحث في التسوية ليس جدياً في انتظار تبلور معادلات أخرى خارجية، ولذا تدفع الأزمات البلد إلى مزيد من الغرق في الفوضى وصولاً إلى الانهيار الشامل

المصدر
ابراهيم حيدر - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى