تيار “المستقبل”… حزب سرّي!
تشهد الساحة السنية حراكاً سياسياً متناثراً يشبه اضطراب ومخاض ما قبل الولادة، لكنّه من شدّة غموضه يُخشى أن يولد مشوَّهاً أو على شكل توائم سيامية غير متجانسة أو أن لا يعيش طويلاً لافتقاده إلى عناصر المناعة اللازمة، لأنّ هذه الولادة تأتي في العراء من دون خيمة تظلّل أهل السنة ومن غير مرجعية حاضنة لهم في تفاصيل عزائهم الطويل الممتدّ منذ سبعينات القرن الماضي والذي حمل معه مئات الشهداء من المفتين والمفكرين والقادة السياسيين، ولم ينته باغتيال الشهيد رفيق الحريري.
كان السؤال الأول عندما علّق الرئيس سعد الحريري عمل تياره السياسي: ماذا بعد هذا الإعلان الخطر؟ وكيف سيتعامل الرأي العام السني أولاً واللبناني ثانياً مع قرار جاء عشية انتخابات نيابية وشكّل هرباً من محاسبة كان يتوقع أن تُنتج هزائم كبرى «للتيار الأزرق»، ففضل رئيسه الانسحاب على قاعدة «أنا ومن بعدي الطوفان»؟
سارع مؤيدو الحريري إلى إعلان التزامهم الشكلي بعدم المشاركة ثم انقسموا شطرين: الأول يحارب كلّ من شارك ترشيحاً أو انتخاباً، والثاني تسلّل بين اللوائح لخداعهم بالدعم من تحت الطاولة، كما فعل أحمد الحريري مع 12 لائحة انتخابية وجنى منها أربعة ملايين دولار، وفق ما كشفه الدكتور مصطفى علوش.
أمّا التحدّي الأكبر الذي طرحه «السعديون» فهو مطالبة السنة الذين ترشحوا وخاضوا الانتخابات بتشكيل بديل فوريّ عن زعيمهم الغائب، وتناسَوا أنّ «تيار المستقبل» استغرق بناؤه سنوات طويلة، حصل خلالها الحريري على تمويل ودعم عربي ودولي منقطع النظير لم يحظ به حتى الشهيد رفيق الحريري، فكيف يمكن في بضعة أشهر تقديم بديل سياسي على مستوى لبنان؟
تكمن خطورة ما يفعله الأمين العام «لتيار المستقبل» أحمد الحريري، منذ انسحاب تياره شكلياً من العمل السياسي، في أنّه استمرأ العمل «السرّي» الذي يستطيع من خلاله «التخريب» ويبقى خارج المُساءلة، تماماً كما فعل منذ انتخابات 2022 النيابية، عندما خاض معارك إسقاط المشاركين من خارج دائرة تأثيره، وخاصة اللوائح المدعومة من الرئيس فؤاد السنيورة في بيروت والمناطق، بالتوازي مع عمليات ابتزاز مالي ذكرها الدكتور مصطفى علوش.
يقوم الحريري بالتصدّي لكلّ من يحاول إحداث التغيير في الواقع السياسي أو الديني وتخريب عمله على المستوى الداخلي، وفي مناوءة تحرّكات السفير السعودي في لبنان وليد بن عبد الله البخاري، فالحريري لم يتحمّل انفتاح السفير على المناطق اللبنانية وانكشاف حجم التقصير الهائل في حصاد الأعوام التي كان فيها «المستقبل» الممثل الحصري والوحيد لأهل السنة وكان يفترض به تنفيذ ما كان يفترض أنّه مشاريع مكتملة التمويل وخاصة في طرابلس والضنية والمنية وعكار وعرسال.
وفي انتخابات الإفتاء التي جرت أواخر العام 2022 عبثت أصابع الحريري بالكثير من المواقع وحاول دعم مرشحين معروفين بأنّهم لا يحظون برضى بيئتهم ولا يتوافقون مع توجهات السنة السيادية والوطنية.
يفتح فريق الأمانة العامة في «تيار المستقبل» الآن النيران على كلّ من يحاول أن يخترق الجمود السائد، فإذا بهم يصوِّبون على أشرف ريفي وعلى فؤاد المخزومي، ولا يسلم من شظاياهم الوزير السابق محمد شقير، بينما تتعالى صيحات المواجهة على الطريقة الهندية مع بهاء رفيق الحريري الذي يعاود نشاطه اللبناني وفق صياغة جديدة تستقي العبر والنتائج من المسار السابق، وتضع قواعد العمل في المرحلة المقبلة.
مشكلة هذا الفريق في الواقع هي مع أيّ شخصية أو مبادرة لتحسين الحياة في المناطق السنية، وكأنّه يجب على الجميع تجميد حياتهم العامة والخاصة بانتظار الرئيس الحريري. والمفارقة العجيبة أنّهم يصطفون في خندق واحد مع «جبهة الممانعة»، بينما ينتظر الناس أيّ تحرّك عمليّ لتخفيف وطأة الانهيار بعد أن غادر سعد الحريري من دون أن يكلّف نفسه عناء التفكير في ما يجب فعله لأهالي المناطق التي يفترض أنه يمثّلها، كما فعلت بقية المرجعيات السياسية والدينية في سائر المناطق.