إقتصادمقالات

عضلات “صيرفة” لم تلوِ ذراع سعر الدولار و”المركزي” يواجه بمفرده

وقف المنصة للمؤسسات وحصرها بالأفراد… فماذا يدور في رأس الحاكم؟

يحاول مصرف لبنان، كعادته، شراء الوقت، وشراء ما أمكن أيضا من الليرات اللبنانية المخزّنة في بيوت اللبنانيين وصناديقهم، محاولا عبر منصة صيرفة “شفط” نصف الكتلة النقدية تقريبا التي وصلت الى حدود 72 تريليون ليرة، بعدما تسرب أنه استعد لهذه الغاية بمليار دولار إستحصل عليها من استثماراته، وشرائه المباشر للدولار من السوق الموازية، لعل وعسى يقدر بذلك على لجم نسبة التضخم، والسيطرة على لجام الدولار، لكبح إندفاعه صعودا بصورة دراماتيكية تنذر بالأسوأ إقتصاديا واجتماعيا.

لكن حساب “الحمرا” حيث المقر الرئيسي لمصرف لبنان، لم ينطبق على حساب بعلبك وشتورة وعكار وطرابلس وبيروت، حيث باتت دكاكين الصيرفة غير المرخصة تنبت كالفطر، والصرافون المتجولون والديليفري في الشارع وعلى عينك يا دولة، والجميع يشتري ويبيع دونما حسيب أو رقيب، لمصلحة كبار التجار والممولين، وشاحني العملة الى الخارج، لذا بات تدخل “المركزي” بعضلات صيرفة غير ذي فاعلية، طالما أن لا حدود للطلب على الدولار، و”الشفّاطون” الكبار يشترون بأي سعر، ومن أي كان، ويستبدلون مخزون الليرة لديهم بالعملة الخضراء. فإلى أين؟ وما مصير صيرفة بعد جنون الأمس؟

لا أحد يدري ماذا يدور في رأس حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فالرجل مر بتجارب عدة، وأمسك بأزمات خطيرة، إستطاع تجاوز انعكاساتها، وخفّف ثقل وطأتها على الليرة والإقتصاد. لكن الأمس غير اليوم، فالرجل “تلاتة بواحد”، ويعمل في الموضوع النقدي منفردا. فلا رئيس جمهورية يتحمل معه ثقل القرارات، ولا حكومة كاملة المواصفات تغطيه، ولا مجلس نيابي يدعم خطواته، بسبب فقدانه الدستوري لِلحق بالتشريع في حقبة الانتخابات الرئاسية، اضافة إلى فقدان الإجماع السياسي حول دوره، وتعرّضه اليومي لشتى الإتهامات من معارضي سياساته النقدية والمالية.

تتجه الأنظار حاليا الى الحاكم، محاولة سبر أغوار قراراته المستقبلية: هل يخفض ويحدد السقوف؟ هل يضخ دولارات أكثر في السوق؟ وإلى متى يستطيع الصمود أمام آلة الشفط التي لا ترحم سيولته؟ وهل يتجه الى ايقاف صيرفة، خصوصا بعد قراره المفاجىء امس تخصيص الافراد فقط بمبلغ 100 مليون ليرة وحجب صيرفة عن الشركات والمؤسسات التجارية؟

مصادر اقتصادية تشكك في أن يكون مصرف لبنان غير مدرك بأن فتحه منصة صيرفة لتجار المال الذين لديهم فائض من الاوراق النقدية بالعملة اللبنانية سيؤدي الى استخدام قسم كبير من الدولارات التي تم شراؤها من “صيرفة” سيذهب الى التخزين وسوف يستخدم للمضاربة في الوقت والظرف المناسبين. ولكن في المقابل ترى المصادر أنه يمكن أن تكون غاية مصرف لبنان استهداف الاوراق النقدية بالليرة المخزنة لدى هؤلاء بغية اخراجها ووضع اليد عليها. وتعرب عن اعتقادها ان مصرف لبنان وصل الى الحدود التي يريدها من هذه العملة، لذا بدأ بوضع ضوابط لشراء الدولار من منصة صيرفة.

ولكن ما الاسباب وراء تخصيص المنصة للافراد من دون المؤسسات؟ تقول مصادر متابعة إنه عندما رفع مصرف لبنان سعر صيرفة الى 38 الف ليرة مع فتح العمليات من دون حدود للافراد والمؤسسات كانت الغاية وقف التدهور السريع للدولار. ولكن تبين لاحقا ان معظم المؤسسات التي تتقدم للافادة من صيرفة بمبالغ كبيرة لم تقم بخفض اسعار السلع لديها لتتناسب مع سعر المنصة. لذلك، ومنعاً لاستغلال صيرفة من البعض تم ايقافها للمؤسسات والشركات خصوصا انها في الحالتين تسعّر على سعر السوق السوداء (الموازية)، وتاليا فإن افادتها من صيرفة لن تكون ذات جدوى اقتصادية كبيرة. وتم ابقاء صيرفة للافراد وبمبلغ مقبول هو 100 مليون ليرة شهريا بما يساعدهم في تأمين دولار لمصاريفهم، وقد يفيد البعض من الافراد بهامش ربح، ولكن يبقى الربح محدودا وضمن ضوابط واضحة. مع الاشارة الى ان من استفاد من صيرفة في الايام القليلة الماضية هم بغالبيتهم افراد وعددهم كبير وبعض المؤسسات، علما أن القيود التي تم وضعها هي للمؤسسات والافراد ايضا. فبعض المصارف كانت تسمح بـ 500 مليون ليرة للفرد اصبح الآن الحد الاقصى 100 مليون ليرة، مع الاخذ في الاعتبار أن “الاجراء الاخير وضع حدا للمضاربة بشكل كبير”، معتبرة أنه من الناحية العلمية فإن “اي اجراء لديه ايجابيات وسلبيات، كالدواء لديه عوارض جانبية لكنه يخفف الالم”.
ولا تستبعد المصادر عينها امكان ارتفاع سعر الصرف، “ولكن بما ان ضخ الدولار سيبقى مستمرا للافراد وبكميات كبيرة لذا فإن الارتفاع غير مبرر”. وتستطرد بالقول: “نعود الى اساس المشكلة التي تتجلى بتهريب دولارات وسلع عبر الحدود، عدا عن وجود مضاربين ومنصات غير شرعية تقوم بالتسعير العشوائي من خارج الحدود من دون مراقبة وملاحقة فعلية، وعدم وجود اصلاح وخطة تعاف شفافة لاعادة الثقة، وانسداد الافق السياسي وعدم انتخاب رئيس للجمهورية”. كل هذه العوامل السلبية، لا تساهم برأي المصادر في خفض الدولار، “لذلك لا بد من اجراءات سريعة واصلاح فعلي اليوم قبل الغد”.

هل حققت “صيرفة” أهدافها؟
بفعل الأزمة الاقتصادية والانهيار النقدي اللذين بدأت بوادرهما تظهر في نهاية العام 2019، لم يعد بالإمكان الاستمرار بالسياسة النقدية نفسها منذ العام 1997 القائمة على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي. لذا تم إنشاء منصة صيرفة في شهر أيار من العام 2021 عبر التعميم الرقم 157 الصادر عن مصرف لبنان، بحيث تؤمن المنصة عملية بيع وشراء العملات الأجنبية النقدية، وتحديدا الدولار بسعر يتحدد وفق آلية العرض والطلب من المصارف والصرافين، على أن تكون هذه العمليات متاحة للتجار والمستودرين والمؤسسات وأيضا للأفراد العاديين شرط تأمين مستندات ومعلومات محددة وتتم العمليات بطريقة شفافة.

يلخص الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية الدكتور ايمن عمر هدف مصرف لبنان من المنصة بتحقيق أهداف عدة، أولها التحول من نظام الصرف الثابت إلى نظام الصرف العائم القائم على العرض والطلب ليتماشى أكثر مع الوضع الاقتصادي والمالي مهما كانت الظروف سواء في الأزمات أو عند الازدهار، لجم الانهيار النقدي وضبط سعر صرف الليرة مقابل الدولار عبر ضخ الدولارات المطلوبة في السوق عبر منصة صيرفة.

كما يحاول مصرف لبنان إبقاء تحكمه في سوق القطع لضمان تأثيره على سعر الصرف عند الحاجة، والتخفيف من حدة تأثير المضاربين في هذه السوق، والانتقال التدريجي من السعر الرسمي للصرف 1507.5 ليصبح سعر منصة صيرفة هو السعر الرسمي، اضافة الى “تقليل الفجوة بين سعر الصرف في السوق الموازية التي تتحكم بها عمليات المضاربة والسياسة بالدرجة الأولى، وسعر الصرف الرسمي من أجل توحيد سعر الصرف لاحقا”.

بعد أكثر من سنة ونصف سنة على إنشاء المنصة، هل حققت الأهداف المرجوة منها؟ يقول عمر: “عند إنشاء المنصّة كان سعر الصرف يبلغ نحو 12,600 ليرة لكل دولار وقد تخطى حاليا الـ 45 الف ليرة أي بزيادة نسبتها 257%، حتى أن المسار الانحداري لسعر الصرف لم يتغير، وهو يسير ضمن منحنى تصاعدي للدولار مقابل الليرة مع فترات قصيرة نسبيا تتحسن فيها الليرة مقابل الدولار، على رغم التعميم 161 الذي هو إحدى أدوات عمل منصة صيرفة. هذا التعميم الذي ينظم عمليات السحوبات النقدية من المصارف وفق سعر المنصة، علما أن حجم التداول على المنصة بلغ في العام 2022 أكثر من 12 مليار دولار، ومع ذلك لم يفلح في لجم الانهيار النقدي”.

وبعدما وصل حجم التداول خلال 3 أيام فقط هذه السنة على منصة صيرفة الى رقم خيالي بلغ حاجز المليار دولار، خصص مصرف لبنان التداول على المنصة للأفراد فحسب، وهو بذلك وفق ما يقول عمر “يخالف التعميم الأساسي للمنصة الرقم 157 والذي ينص في مادته الثانية على أن المنصة هي “لتأمين الحاجات التجارية والشخصية لعملائها، ايا تكن صفتهم”. وإن كان مصرف لبنان يهدف من خلال ذلك إلى ضبط حركة حجم التداول الخيالي الذي حصل، إلا أن أصحاب الشركات والمؤسسات بصفتهم الفردية يستطيعون القيام بعمليات صيرفة كغيرهم وخصوصا المحظيين منهم”، علما أن مصادر أخرى تشير الى انه “عندما يؤمن مصرف لبنان الدولارات للافراد على سعر منصة صيرفة يقوم بذلك بهدف تامين حاجات الافراد التجارية والشخصية وليس لقيامهم بالمضاربة. وفي كل الحالات يمكن لمصرف لبنان تعديل التعميم الصادر عنه في اي وقت كي يتماشى مع التطورات”.

بَيد أن قرار تخصيص مصرف لبنان التداول على المنصة للأفراد فقط، سينعكس برأي عمر على “سعر الصرف في السوق الموازية حيث سنشهد مزيدا من الطلب على الدولار وعودة التفلت في سعر صرفه. وسيترافق ذلك مع ارتفاع وتيرة الاشتباك السياسي وخصوصا في قضية انتخاب رئيس للجمهورية، وتاليا اشتداد حدة الأزمات بكل أنواعها”.

المصدر
سلوى بعلبكي - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى