محلي

فشل حكومي ذريع في إدارة الأزمة…

خلل جوهري في آليّات التوزيع في السوق.
القرارات السياسيّة والاقتصاديّة تحدّدها التدخلات الإقليميّة والدوليّة… والمصالح الشخصيّة.

أثبت التاريخ أنه في ظلِ نظامٍ مبنيٍ على الطائفيةِ المؤسسيةِ، يتم تحديد القرارات على الساحة السياسية اللبنانية إلى حد كبير، من خلال العلاقات مع القوى الإقليمية وتدخلات القوى الأجنبية الإقليمية أو الدولية في الدخل اللبناني. وبما أن القرارات الاقتصادية هي حصرية للسلطة السياسية، كما نصّ عليه الدستور اللبناني، لذا يمكن القول إن القرارات الاقتصادية أصبحت إلى حدٍ كبيرٍ رهينة التدخلات الإقليمية والدولية.

أبعد من ذلك، يعتمد صندوق النقد الدولي مبدأً منصوص عليه في نظامه الداخلي، يفرض على الدولة – طالبة المساعدة – وجود حكومة أصيلة لإبرام أي اتفاق مساعدة أو التوقيع على برنامج مع صندوق النقد الدولي. وبالتالي نرى أن القرار الاقتصادي أصبح أيضًا – بدفع دولي – رهينة التوافق السياسي الذي وحتى الساعة غير موجود.

ما يقوم به المجلس النيابي من دراسة للقوانين، وعلى الرغم من أهميته يحتاج إلى من ينفذه – أي حكومة أصيلة. وبالتالي، فإن القوانين التي سيقرّها المجلس هي رهينة وجود حكومة أصيلة التي تفرض انتخاب رئيس للجمهورية.

من كل ما تقدّم، نرى أن كل القرارات التي تخصّ الاقتصاد في لبنان أصبحت مربوطة بشكلٍ أو بآخر بانتخاب رئيس للجمهورية وهو ما يعني، في غياب التوافق السياسي، استمرار التآكل الاقتصادي والمعاناة اليومية للمواطن. فقد أظهرت التجربة أن حكومة تصريف الأعمال الحالية عاجزة عن أخذ قرارات بحكم الخلاف السياسي القائم على صلاحياتها.

في هذا الوقت، تستمر الفوضى القائمة على صعيد السوق بالتزامن مع التسعير العشوائي الذي يعتمده التجار من دون رقابة حكومية. فالأسعار المعتمدة لا تتناسب وسعر صرف دولار السوق السوداء المعتمد (نظريًا) من قبل التجار في كل العمليات التجارية. بالتحديد، يمكن ملاحظة فوضى التسعير عبر محاولة شراء سلعة معيّنة من عِدة متاجر، ليجد الشخص أن الأسعار متفاوتة بشكلٍ كبير (قد تصل أحيانًا إلى أكثر من 50%!) بين متجر وآخر. أضف إلى ذلك نوعية السلع والبضائع التي هي موضوع شك كبير مع استيراد العديد من المواد الغذائية المرفوضة من قبل الدول الإقليمية الأخرى (على مثال الملوخية التي رفضتها مصر وقبلها لبنان!) وتاريخ صلاحية المواد الغذائية المستوردة التي احتكرها التجار بهدف تحقيق أرباح نتيجة ارتفاع دولار السوق السوداء.

المشاكل التي تواجه المواطن عديدة بدءًا من كلفة الكهرباء والاتصالات وصولاً إلى المحروقات ومرورًا بالمواد الغذائية. وفي محاولة لتخطّي الصعوبات، يعتمد المواطن على مساعدات من عدة مصادر منها الدولة (من خلال المساعدات الاجتماعية – أجرين إضافيين شهريًا)، والجمعيات الخيرية (كاريتاس، المبرّات…) والمغتربين الذين يدعمون أهاليهم بـأكثر من 6.5 مليار دولار أميركي سنويًا، ومنصة صيرفة التي يستفيد الموظفون منها بفارق السعر بين دولار السوق السوداء ودولار منصة صيرفة.

لكن هذه الوسائل التي يعتمدها المواطن، لا تشكّل حلًا جذريًا لمشاكله، حيث أن التآكل الاجتماعي (نوعية التغذية والتعليم والطبابة…) يجعل المجتمع اللبناني – بعد أن كان لبنان سويسرا الشرق – يهبط إلى مستويات الدول الافريقية. الأغنياء في لبنان (نسبتهم تتراوح بحدود العشرة في المئة من الشعب)، وعلى الرغم من قدرتهم الكبيرة على شراء السلع والخدمات التي يحتاجون اليها، أصبحوا عرضة لتداعيات نوعية السلع والخدمات المقدّمة، في حين أن الفقراء ونسبتهم عالية جدًا، أصبحوا يعانون من عدم القدرة على إكفاء حاجاتهم الأساسية.

عمليًا، قلّة قليلة من الشعب اغتنت نتيجة الخلل القائم في آليات التوزيع، وهي مؤلفة من التجار والصيارفة بالدرجة الأولى، وتعبث الفوضى في الأمن الاجتماعي والاقتصادي في لبنان. كل هذا تحت أنظار الدولة اللبنانية التي تقف وقوف المتفرّج تجاه العديد من المشاكل التي كان بقدرتها حلّها بقرارات بسيطة.

ما يُسمّى بالفساد أصبح يوازي «الشطارة» في لبنان! ثقافة وصفها الاقتصادي الهندي «سنّ – Sen» بأنها ناتجة من خلل في آليات التوزيع، وهي نتاج تقصير (في أحسن الأحوال) أو تواطؤ من قبل السلطات الرسمية الموكل إليها الرقابة على آليات التوزيع في الأسواق.

هذا الأمر يمكن إثباته من خلال تحليل الاستيراد في لبنان على 11 شهرا من العام 2022. ففاتورة الاستيراد على هذه الفترة بلغت 18 مليار دولار أميركي، في حين أن قدرة اللبنانيين والنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين على الاستهلاك لا تتخطّى الـ 6 إلى 7 مليار دولار أميركي! وبالتالي، فإن التجار يعمدون إلى تهريب قسم كبير من هذا الاستيراد إلى الخارج، أي ما يوازي بأقلّ تقديرات 12 مليار دولار أميركي سنويًا!

وبالنظر أكثر إلى تفاصيل هذا الاستيراد، نرى أنه على استيراد 18 مليار دولار أميركي على 11 شهرا من العام 2022، هناك أكثر من 5 مليار دولار أميركي استيرادا للمحروقات، وما يقارب ملياري دولار أميركي استيرادا للسيارات وقطع غيار لها. أصعب من ذلك، استيراد المواد الغذائية لا يتعدّى الـ 2.1 مليار دولار أميركي والمواد الطبيّة 300 مليون دولار أميركي! وهذا الأمر يُسقط حجة التجار الذين كانوا يأخذون المواطنين رهينة بحجّة أن مصرف لبنان لا يُعطيهم الدولارات للاستيراد. في الواقع يريدون الدولارات لشراء المواد للتهريب.

ويقول أحد أصحاب محطات توزيع الوقود، إنه وفي اليوم الذي أصدرت وزارة الطاقة والمياه تسعيرة المحروقات على سعر 38 ألف ليرة لبنانية – على سعر منصّة صيرفة – قام القيمون على القطاع بالطلب من المحطات بالإقفال لإجبار الوزارة على إصدار التعرفة على سعر السوق السوداء (وهو ما حصل في اليوم التالي) آخذين المواطنين رهينة.

إذًا من كل ما تقدّم، نرى أن هناك الكثير من الخطوات التي تستطيع حكومة تصريف الأعمال القيام بها لتخفيف الأزمة على المواطنين، إلا أن النكد السياسي والمصالح الخاصة تمنع هذه الحكومة من أخذ أي قرارات صائبة، فإذ بها تذهب إلى رفع الأجور في عملية انتحارية نهايتها التضخّم، الذي لن تقوى أجهزتها الرقابية والأمنية ولا المصرف المركزي على السيطرة عليه.

المصدر
جاسم عجاقة - الديار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى