المرتضى: سوف نظل ثابتين كثنائي وطني في وحدة كالبنيان المرصوص
القى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى كلمة خلال حملة تشجير على طريق جبل صافي – جباع، قال فيها :
لا يمكنك، وأنت الصاعدُ في إتجاه الجبلين الأشمّين، الريحان وصافي، الاّ أن تتأمّل في ثابتةٍ مفادها أن هذه الارض كانت في وقتٍ من الأوقات مسلوبةً منّا وأنّها لم تُستعدْ الاّ بفعل تضحيةٍ من أبرارٍ ميامين، هنا دمُهم ضاربٌ في الرياحين، أجسادُهم تنهضُ من شهادتِها باكرًا في الصباح، تتأملُ كيف تحررّتِ الأرضُ، ذكراهم تتوضّأُ بحكايات البطولةِ، وشجرُ الصنوبرِ يلوِّحُ لهم بأكوازِ الوفاء، لأنّ كلَّ واحدٍ منهم وُلِدَ من أمٍّ شريفةٍ حرَّةٍ ليكونَ ولدًا لأمّةٍ شريفةٍ حرّة.
هنا وهناك على ذينك الجبلين كانت ترتفعُ قاماتُ الأشجارِ لتعانقَ الضوءَ الطّالع من أهدابِ الساهرين على الزناد، وكانت النسائمُ الجنوبية توقظُ الخوفَ في مفاصلِأعداءِ الإنسانية، وكان اليومُ يروي لليومِ الذي بعدَه أخبار الانتصارات، حتى أصبح الزمنُ الذي نحن مجتمعون فيه الآن، حقًّا صريحًا لنا، ولأمهاتِنا وأطفالِنا، لمغتربينا والمقيمين، للبنانيين أجمعين، بالتضحية استعدناه وبالثبات والإقتدار والوعي نحفظه فلن يُسْلَبَ منّا بعد اليوم.
كان لا بدَّ أيها الأحبّة من هذه الوقفة الوجدانية ذلك أنه من أبسط عناوينِ الوفاء أن نستذكر من ضحَّوا لنبقى، وأن نستذكر أيضاً، أمام ما رشح من فحيح، الأمَّ الجنوبية رمزِالتضحيةِ…. الأم أّيّها الأحبة تُضحّي عادةً بكل شيءٍ من أجل أولادها، أما عندنا فأمّنا الجنوبية الطاهرة لم تتردَّد في التضحية بأولادِها من أجل الوطن. ليسَ ثمّة شرفٌ أبهى من هذا الشرف وليس ثمّة حبٌّ للأرض والحرية وإيمانٌ بالحقّ أعظمَ من هذا العطاء النبيل.
ونعود الى صافي أيّها الأحبّة،
ههنا على قِمّته ينتصبُ المقامُ والمقاوِمُ معًا، ليستظلّا شجرةالوطنِ المثقَلَةَ بثمارِ الكرامةِ والبطولة. كلاهما يرفعُ الأرضَ إلى رتبةِ السماءِ، إيمانًا من هنا وتضحيةً من هناك، تاريخًامن قبلُ وحاضرًا مُقبِلًا، دينًا سيِّدًا ودنيا مسكونةً بالجهاد والقيم والفضيلة.
على قمة صافي تستعيدُ البروقُ سيرتَها الأولى، وتُعلنُ الغمائمُ التي في جيرتِه أنَّ المطرَ المنسكبَ منها عليه، لا يفوقه طُهرًا سوى الدمِ الذي سال فيه على طريق التحرير.
على قمة صافي تجتمعُ اليومَ الزنودُ التي شمَّرَتْ عزائمَها لتزرع. ذلك أن ثباتَ الشجرةِ في ترابِها عنوانٌ لثبات الناسِ في أرضِهم، وتأكيدٌ على أن الصمودَ قدرُ الأحرارِ الذين يربطون وجودَهم بانتصارِ مبادئهم الشريفة.
أصحاب المعالي والسعادة، أيها الأحباء
كان لا بدَّ لأهل هذه الناحية من جنوب لبنان، وللقيادات السياسية والسلطات المحلية فيه، أن يعملوا متحدين ومنفردين على جميع الصعد التي تؤدي إلى تحقيق أمرين هما: ترسيخ أبناء الجنوب في قراهِم ومدنهم بعد التحرير الأول والانتصار الثاني والعودة مرتين، وكذلك ترسيخُ قيمالبطولة والإباءِ في نفوسِهم، علمًا أنهم يتنفسون هذه القيم منذ الولادة. وما ترميم المقام الذي نحن فيه والذي يرقى إلى مئات السنين، بعدما تعرض له من اعتداءات صهيونية، إلا خطوةً على سبيل تحقيق ما ذكرت، وكذلك القولُ عن مشروع التشجيرِ، الذي نأمُلُ أن يتوسَّعَ ليشملَ كلَّ زاويةٍ من زوايا الوطن، لعلَّ الخُضرةَ تتسرَّبُ إلى النيّات والأقوال والأفعال، فتُعدي من يصرّون على نشر الجفافِ واليُبُوسةِ في جميع الميادين حيث تصلُ خطاهم وترتفعُ أصواتُهم. إن لبنانَ في حاجةٍ إلى أيدٍ خضراء وقلوبٍ خضراء وألسنةٍ خضراء، وإلى زراعةِ أشجار السلام والتلاقي في نفوسِ بعضِ السياسيين أولًا، وجميع المواطنين تاليًا، لكي تنمو نبتَةُ الوطنِ وتعلوَ وتُثْمر. في هذا الإطار الصافي كاسمِ الجبل الذي نحن عليه واقفون، تندرجُ دعواتُ الحوار والتوافق وما إليهما، التي لا مناص منها لاستعادة الحياة الوطنيةِ زخمَها وعافيتها، من أجل معالجة الأزمات الكثيرةِ التي تضيِّقُ الخناق على الشعب اللبناني.
إننا نعيشُ اليوم مرحلةً دقيقةً من عمرِ الوطن، تُحتّم علينا التحليَ بالوعي المفضي حتمًا إلى الخلاص. ربما كان لنا في الظروف العادية ما يبرر تصاعد لهجة الخلاف بين الأفرقاء، وهذا في بعده الوطني دليلُ تعافي الحياة الديمقراطية، أما في الظروف الصعبة، فإن الوعي ينبغي له أن يقودَنا إلى البحث في ما يمكن لكلِّ طرفٍ منا أن يقدمه للطرفِ الآخر الذي هو أخٌ في الإنسانية وشريكٌ في الوطنية، بدلًا من الإلحاح الدائم على المطالبةِ بالمكاسب. وهذا في حدّ ذاته عملٌ ثقافيٌّ بامتياز، مرتبطٌ في مسار الحياة الوطنية، بالبعد النضالي الذي من عناصره الترفّع عن الأنانيات والتضحية والعطاء، لا الأخذُ والسيطرة. تمامًا كما تفعلُ الشجرةُ التي تمنحُ ثمارَها للآكلين بلا تمييز، وتبسط ظلالَها على الجميع من دون تفرقة.
أيها الأحبّة
قلتُ في مناسبةٍ سابقة أنّ الانتصارَ لدينا نحن اهل الجنوبِ لم يقتصر على دحرِ الاحتلال الإسرائيلي فإن ثمّة إنتصاراً أهمَّ في قاموسنا وفي سجلنا يقتضي على اللبنانيين اينما كانوا أن يستهدوا به، هو الإنتصار على كلِّ عوامل التفرقةِ والانقسام في مجتمعٍ متمايزٍ متعدد يضم مواطنين من أديانٍ ومذاهبَ مختلفة، ومن طبقاتٍ اجتماعية متفاوتة، وانتماءاتٍ حزبية وعائلية متنوعة.
إنه المثالُ الصالح والأنموذجُ الحيُّ والصورةُ البهيَّةُ عن الوطنيّةِ الحقة، وعن التنوع ضمن الوحدة، وعن ثقافة التمسك بالآخرِ والحرص عليه. هذا المجتمعُ، بل هذا المصهرُ الإنسانيُّ، أعطى الانتصار بعدًا آخر، لأنه شكَّلَ النقيضَ الواضح للمفاهيم التي قام عليها الكيانُ المغتصب. فنحن مسلمين ومسيحيين، بمقدار ما نثبتُ في عيشِنا وأرضنا وحقوقِنا معًا، نغلبُ أعداءَنا المنظورين وغيرَ المنظورين، طلانا يتبع منهجاً هو منهج الرحمة والحق والعدل والإنفتاح على كل ما هو انساني والإنبراء لمواجهة كل ما هو شيطاني، وهذا ما يفرض علينا حفظ اسباب الصمود والتنوع والفرح فيه وتمتين العيش الواحد وهذا بالنسبة لنا واجب ديني وواجب أخلاقي وضرورة وطنية وهو المفتاحُ الذهبيُّ لبوابة الانتصار ولصون هذا الإنتصار وعلى هذا المنهج سوف نظلّ ثابتين كثنائيٍّ وطني في وحدةٍ كالبنيان المرصوص ولن نبدّل تبديلا.
الآن يا أحبتي سنمضي معًا ليزرعَ كلُّ واحدٍ شجرة صغيرة على الطريق. ولَسوفَ نأتي إلى هنا بعد حين، لنرى الأشجارَ التي زرعناها وقد نمت وامتدّت غصونُها وتلألأت خضرتُها؛ فإذا هي شامخةٌ كلبنانَ الأخضر الذي بهمة الأحرار لن يعتريه ذبول، ولن تمتدَّ إليه يدٌ جرداءُ وعيون قاحلة، ولن يستطيعَ الصهاينةُ من بعد أن ينالوا منه ولا ورقةَ خريفٍ صفراء، لأن البطولة الخصيبة هي التي تسقيشجرة الوطن وتسهر عليها وترعاها.
نسأل الله أن يبارك زرعنا وأن يعافي وحدتنا الوطنية وأن يحفظ مقاومتنا ليبقى لبنان.