تتحول التطورات السياسية والمالية اللبنانية، في الأيام الأخيرة من السنة، إلى ما يشبه السيرك. سيرك سياسي من شأنه تعبئة الفراغ القائم وقضاء عطلة الأعياد. فتجدد المناوشات السياسية العلنية والمباشرة بين رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، تظهر لبنان وكأنه في أفضل أحواله، ولا أزمات تعصف به وتعمق الانهيار. فعون يعتبر أن عهده أفضل العهود، ومصمم على الاستمرار في ما يعتبره محاربة الفساد. الأمر الذي استدعى رداً من برّي، وهو يعتبر نفسه أنه صاحب ريادة الإصلاح، متهماً مشروع عون بأنه القائد إلى جهنم. صراع مستمر دفع ثمنه اللبنانيون وسيستمرون.
أزمة متجددة
في المقابل، رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، يسعى إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء. وقبلها عمل على ابتكار “توليفة” للحصول على توقيع وزير الدفاع بما يتعلق بدفع المساعدة الاجتماعية للعسكريين. الأمر الذي أدى إلى أزمة متجددة بينه وبين التيار الوطني الحرّ. ميقاتي أراد استخدام هذا الملف لتفعيل عمل حكومته، وتبرير أي دعوة لعقد جلسة جديدة، فيما التيار الوطني الحرّ يتهمه بأنه التف على قرار وزير الدفاع، الذي وقع المرسوم مع شرط توقيعه من قبل 24 وزيراً. إلا أن ميقاتي اعتبر نفسه قد استحصل على توقيع وزير الدفاع وأقر المرسوم بعد توقيعه فقط.
ومن اتهامات التيار الوطني الحرّ لميقاتي، بأنه يسعى إلى تجيير كل الأزمات القائمة للاستثمار بها سياسياً وحكومياً، ليكون هو الحاكم الفعلي للبلاد. مثل هذا الخطاب سيضفي المزيد من الحماسة على السيرك اللبناني، إذ أن البعض سيعتبر ميقاتي متعدياً على صلاحيات رئيس الجمهورية، ويمس بمواقع المسيحيين. وقد يذهب هذا البعض إلى حد المطالبة بالإنفكاك أو بتعديل الدستور.
تعاميم سلامة وبهلوانياته
ولكن على الرغم من كل هذه المشاهد المشهودة سابقاً في لبنان، فإن من يحتل المنصب الأول في العراضة القائمة، يبقى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من دون منازع، بالاستناد إلى تعاميم وبهلوانيات، يتلاعب من خلالها بسوق القطع، فيمسك عمل المصارف والصرافين في آن معاً. يبيع دولار بأسعار منخفضة، ويشتريه بأسعار مرتفعة، وينسب لنفسه إنجازات في إدارة الأزمة وتخفيض سعر صرف الدولار في السوق السوداء. وربما تكون هذه “الإنجازات” المحسوبة لسلامة (بالنسبة إليه)، دافعاً لترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية أيضاً، أو دافعاً لإعادة طرح فكرة التمديد له، خصوصاً بحال عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
طبعاً أعلن سلامة سابقاً أنه ينتظر انتهاء ولايته للمغادرة، ولكنه قال ذلك سابقاً واستمرّ.
كل هذه المشاهد تشير إلى أن لبنان يدور في دوامة من التعطيل وسوء الإدارة. ما يوحي باستمرار الأزمة وطول أمدها، طالما أن لا حركة جدية ظاهرة قادرة على إخراج البلاد من الأزمة. وهذا يدل على المزيد من الاهتراء. في الموازاة، يحضر التحقيق الأوروبي في ملفات مالية لحاكم مصرف لبنان، ورد الفعل السلبي تجاه التحقيق معه. وهي ناتجة أيضاً عن اعتباره مخزن الأسرار الذي يجب أن يبقى مغلقاً.
أبعد من الرئاسة
هناك من يعتبر أنه لا يمكن توقّع حصول مبادرة خارجية تتبنى حلّاً مؤقتاً للبنان، يقضي فقط بانتخاب الرئيس، لا بل إن الدخول الدولي لا بد أن يكون مشروطاً بسلسلة إجراءات قاسية، لن يكون أفرقاء الداخل قادرين على تحمّلها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أي خطوة خارجية تشدد على ضرورة عدم النظر إلى الأزمة وكأنها محصورة في عدم انتخاب رئيس، لأنها أكبر من الاستحقاق الرئاسي، ولها أسس أخرى مالية واقتصادية.
فبالنظر إلى ما تعلنه دول إقليمية من مواقف سياسية واضحة، كالموقف السعودي، بالإضافة إلى النظر إلى تقارير البنك الدولي وصندوق النقد، وربطاً بما يقوله الأوروبيون عن وضع المصرف المركزي والمصارف، والذهاب إلى تحقيقات في حسابات المركزي وأرصدته، يتبين حجم الأزمة وعمقها. وهذه المواقف تشير إلى أن التعاطي مع لبنان في وضعه الحالي يظهر وكأنه وباء ثمة خشية خارجية من تمدده وتوسعه، أو تتسبب بعدوى في جهات مختلفة.
من هنا سيعود لبنان إلى خيار من إثنين. إما بقاء الوضع على حاله وصولاً إلى الانهيار الشامل، وتوفر ظروف لتدخل دولي تفرض تغييراً جذرياً. وإما أن ينجح اللبنانيون فيما بينهم، وبالاستناد إلى بعض الظروف الخارجية، في إبرام تسوية مرحلية على غرار التسويات السابقة التي تؤدي إلى تمديد الأزمة.