مقالات

أنا قومي لبناني وأنت؟ ما هي هويتنا؟

ولدت وترعرعت في لبنان. شربت من مائه. وأكلت من حصاد ترابه. شهدت على أرضه آثارا تحكي قصّة تطوّره الموغل في التّاريخ. هناك مات أجدادنا وهم يدافعون عن بقائه. كنت أقرأ عن تاريخ عطاءاتهم ومقاوماتهم التي أورثتنا هذا الوطن الجميل، كأنّها رواية. كنت أتمتع بهذه الثّروة الرّائعة التي أورثونا إياها. تمتّعت بسحر جباله، وبالثلوج التي تغمرها، وتنسمت فيها روائح أشجار الأرز النادر، والصنوبر والشوح و.. و.. و.. كرجت في وديانه وسبحت في الأنهار المتدفقة فيها. تمتعت بدفء بحره. رأيت حركة حياة لا تتوقف: إقتصاد مزدهر، حركة المطار لا تهدأ، ونشاط المرفأ لا يتوقف. ثقافة مشعّة بين متحف، ومسرح، وموسيقى، وغناء، ورسم، ونحت. جامعات استقطبت نخب العالم العربي. مستشفيات تستقبل أصعب الحالات. وحريّات جعلت كلّ إنسان منّا، جزءا من صناعة الرأي العام.
كنت أعشق رؤية الأخوة العرب يملأون شوارع قراه الجميلة المتناثرة على سفوح الجبال. كأن لبنان صار تجسيدا لحلم عربي كبير نحو العالميّة. كان جواز السفر اللبناني مطلبا يعتز به حامله، لأنّه شهادته إلى عالم الحضارة العالميّة. كان وطني كلّ هذا المشهد من أجمل موروثات اللّيبراليّة الأوروبّيّة. لكنه كان أيضا ساحة ثورات للكرامة الوطنيّة، والتحرّر التي كانت تملأ شوارعه. هناك تفجرّ كل ما لم يقله كتاب التّاريخ المدرسي لنا. إعتقد معدّو كتاب التاريخ، أنّه يمكن زراعة الإنتماء إلى لبنان، من خلال الثّروة التي بين أيدينا. تجاهلوا أنّ بناء الإنسان المواطن، يجب أن يقوم قبل كل شيء، على الثّقة بالمستقبل. وأن المستقبل بحاجة لأن نؤمن بوطننا. تناسى هؤلاء أنّ الحرّيّات العامّة في البلاد، نشرت كل ما تحاشوا ذكره. صار التّورية على الماضي يفترض المواجهة. ماذا لو جئنا نعتذر لبعضنا البعض، ونتصارح كم كنّا أبناء عاقّين. ماذا لو قلنا الحقيقة واعتذرنا عن استخدام بعضنا الذّرائع الطّائفية (مهما كان السبب)، لحكم جبل لبنان ولبنان. ماذا لو قلنا أنّ الإستعمار في القرن التّاسع عشر إستغل مخاوفنا لتشتيتنا، ووضع يده على بلدنا. ماذا لو قلنا أنّنا نريد لبنان وطنا نهائيّا لنا جميعا، ولأولادنا من بعدنا، وأن علينا أن نحميه بزرع الإيمان به، وحمايته من خلال تعديلات دستوية تزيل الخوف عند البعض، وترفع الغبن عن البعض الآخر؟
لقد غلبنا التعصّب السّياسي والطّائفي الأعمى. بعضنا أصرّ على امتيازاته السّلطوية. والآخر، وظّف نقمته في ثورة إيديولوجيّة قوميّة عاطفيّة. انفجرت حربنا الأهليّة، فسارع الإستعمار لتوظيفها في خدمته. كلّنا دفعنا ثمنا غاليّا لهذه الحرب. لكنّ الثمن الأغلى هو أنّ قسما كبيرا من أبنائنا نزع لبنان كهويّة وطنيّة له، وراح يفتش عن هويّة وطنيّة أخرى. منذ ذلك التّاريخ، ولدت أجيال جديدة. بعضهم ولد في دول في الخارج، فتحوّل إلى جزء من شعب بهويّة وطنيّة جديدة، وصار لبنان بالنسبة لهم، ذكرى. والبعض الآخر ولد في لبنان، فصار لبنان لهم تراث حرب، ودماء، وخوف، وحرمان، وظلم، وانهزام، وتبعيّة. أعدادنا، أنا وأترابي من الذين عرفوا لبنان قبل الحرب، تتقلّص شيئا فشيئا. في أعماقنا صراع لا ينتهي إلا بالرحيل. التخلّي عن هويّتنا اللّبنانيّة صار بمثابة خيانة، خيانة مريرة. والبقاء عليها، سجن مرير، مرير جدا.
لقد أمكن لمئات الألوف من اللّبنانيّين، أن يحافظوا على رابط بين أبنائهم وهويّتهم اللّبنانيّة، والقيام في آن معا بواجبهم الأبوي، بفتح أبواب أوطان جديدة لهم. صاروا يحملون هويّتين. هذا ليس معيبا، ولا يبعث لليأس. نحن في نظام عولمي ساحق. وسيكون هذا الجيل الجديد، نبراسا يرفع لبنان من جديد، شرط أن نعمل معا لهذا الهدف.
كنت دائما من المؤمنين بشعبنا. فاللّبناني الذي أثبت كفاءة عالية في كلّ دول العالم، يمكنه بالتأكيد، أن يعيد لبنان لؤلؤة الشرق. لدينا كلّ المقومات، لكنّنا نفتقر إلى الثّقة بالمستقبل. قال لي أحد الأصدقاء من الذين حوّلوا عشقهم للبنان، إلى نقمة، أنّه يختلف معي «على شيء أساسي، ألا وهو وجود الكيان اللّبناني». فهو لم يعد يعتقد «أنّ الكيان اللّبناني موجود، لأنّه لا يوجد شعب لبناني. لم يوجد سابقا، ولن يوجد لاحقا». وقد طلب مني «أن أهتم بصحتي وعائلتي، وأن أكتب عن الغرب الذي آمن بالعقل، ومشى على خطاه حتى وصل إلى القمر والمريخ». ونصحني «أن أدع سكّان الأرض في لبنان، يقاتلون بعضهم البعض حتى الفناء، لأنّه لا أمل من شفائهم من أمراض التعصّب الدّيني، والجهل».
هذه المشاعر تكاد تكون عامّة. فاللّبناني الذي يزور لبنان، يبدأ بعد يومين فقط، بالعدّ العكسي، لمغادرة البلد. أسأله عن رحلته، فيقول لي، أنّه «يرى لبنان جنّة السماء على الأرض، لكنّ شعبه خارج مفاهيم الحضارة والحداثة. كلّ همّه جني المادّة. غلبت المطامع المادّيّة على القيم والمبادئ، وصار الإنسان سلعة لها ثمن». هذا صحيح. لكن، هل هذا الواقع يتعلّق بالإنسان اللّبناني فقط؟ لا، أذكر أنّه عندما انقطعت الكهرباء في مدينة نيويورك قبل بضعة سنوات، هاجم عشرات النّاس المحلّات التّجارية وسلبوها. هذه طبيعة الإنسان سواء في لبنان أو في أيّ مكان آخر، فحيث يوجد مجتمع لا يحكمه القانون والنّظام، تسود الفوضى.
دعونا نكون عادلين، فأيّ بلد في العالم، مرّ بمثل هذه التجربة المريرة المستمرّة منذ أكثر من خمسين سنة؟ ثمّة دول عظمى، عانت الحروب لسنوات قليلة فقط، فانهارت، وتبدّل تاريخها. بلدنا يعيش واقعا عالميّا متطوّرا باستمرار. هذا الوطن الصغير، عمره ألوف السّنوات، وشهد عبر تاريخه عشرات الغزوات والحروب. وعلى الرغم من ذلك حافظ على حضوره. شعبه دفع الأثمان الباهظة، ورغم ذلك، تمسّك بجذوره، وحافظ على هذا الوطن. ما نمر به في هذه المحطّة التّاريخيّة، يشكّل تجربة أخرى لا بدّ أن نخرج منها. نحن لا نصنع ظلما لآخرين، بل نحن المظلومين. نحن لا نعتدي على غيرنا، لكنّنا المعتدى عليهم. أما أن لنا أن نلتقي لنقيم الرادع الذي يحمينا من ظلم واعتداء الآخرين؟

لقد قرأت مؤخرا، تعليقا لنبيه من وطني قال فيه، أما كفانا تشخيصا للمرض والإنتقال بدلا من ذلك، إلى مرحلة المعالجة؟ لطالما سعيت أن أقيم مثل هذه القناعة بين شبابنا، سواء في لبنان أو خارجه. لقد انتهت الحرب الأهليّة باتّفاق الطّائف الذي تحوّلت أحكامه قواعد دستورية. هذه الأحكام تقدّم كلّ المعطيات للخروج من الخوف، والغبن، واستعادة الوطن. لماذا لا نتعاون معا كخبراء مقيمين ومغتربين، لتحويل طاقاتنا إلى عمل جماعي، يضع الإصلاحات المنشودة لقوانينا الوطنيّة، وفقا لأحكام الدستور؟ بالطبع أن لا أقبل أن يكون كلامي بمثابة عبارات نظرية. فبادرت فعلا، مع خبراء، بالتحرّك بهذا الصدد. من يؤمن بلبنان، عليه أن يتحوّل من العمل النّظري إلى العمل الفعلي. لم يعد هناك ما يسمّى ثورة بالمعنى التقليدي. فالثّورة تعني تقليديا، إستخدام العنف لتحقيق التّغيير. نحن لا نؤمن بهذه الوسيلة لتحقيق التّغيير. لدينا وسائل عديدة أخرى. علينا أن لا ننسى أنّنا شاركنا في صناعة النّظام اللّيبرالي العالمي الجديد، منذ شاركنا في إنشاء الأمم المتّحدة والمنظّمات الدّوليّة، كأدوات لتسوية النّزاعات سلما. هل يجوز أن نعود فنتبنى نحن هذا البلد الصغير، مفهوم الدّولة القوميّة لتسوية نزاعاتنا؟ الدّولة القوميّة تعني ممارسة الميكافيليّة في سياساتنا الخارجيّة، فمن نحن في مسيرة الدّول؟ أن أقول أننّي قومي لبناني، لا يعني أنني أدعو إلى اعتماد مفهوم الدّولة القومية، بل إلى احترام كياننا المستقلّ كوطن نهائي لنا، ولأولادنا من بعدنا، وأن نعود جزءا من هذا النّظام اللّيبرالي العالمي.
أنا واثق، أنّ شعبنا الناقم والحالم، يتطلّع إلى يوم يعود فيه إلى لبنان، ويشارك في تحويل كلّ ما تمكّن منه من علم وخبرة، في عالم الغرب، إلى جزء من مسيرتنا القادمة.

المصدر
السفير د. هشام حمدان - اللواء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى