سياسةمقالات

شتّان ما بين المجلس والكونغرس

انشغلت الاوساط السياسية والدبلوماسية ومعها جميع وسائل الاعلام الاميركية خلال الايام التي سبقت احتفالات عيد الميلاد بالنتائج التي توصلت اليها «لجنة 6 كانون الثاني» النيابية المكلفة بالتحقيق في احداث اجتياح مبنى الكابيتول ومسؤولية الرئيس دونالد ترامب في حدوثها في محاولة لتعطيل نتائج الانتخابات الرئاسية من اجل الاستمرار في موقعه الرئاسي.

وكان ابرز ما انتهت اليه اللجنة في تقريرها الذي يقع في اكثر من 800 صفحة اتخاذ توصية تدعو فيها وزارة العدل الى مقاضاة ترامب وتوجيه اتهامات جنائية ضده، من بينها عرقلة اجراء رسمي، والتآمر ومحاولة ابطال نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في تشرين الثاني عام 2020، والتحريض للهجوم على مقرات حكومية بما فيها مبنى الكونغرس.
اثار الرئيس ترامب الشكوك حول فوز منافسه الديمقراطي جو بايدن، وشن حملة شنيعة للضغط على المسؤولين في وزارة العدل وعلى نائب الرئيس مايك بنس، لحضهم على تغيير نتائج الانتخابات لصالحه.
واعتبرت النائبة الجمهورية ليز تشيني العضو في اللجنة انه «لا يمكن لأي رجل (مسؤول) ان يتصرف بتلك الطريقة المخزية إبان لحظة الهجوم على مبنى الكونغرس ان يخدم في اي منصب رسمي، وان ترامب غير لائق لاي منصب».
يذكرنا هذا التقرير للجنة «6 كانون الثاني» بما حمله من نتائج وتوصيات بضرورة توجيه اتهامات جنائية للرئيس ترامب بالضوابط التي تلجأ اليها الديمقراطية الاميركية لتصحيح اي شذوذ يلجأ اليه المسؤول لخدمة مصالحه السياسية، ولا بد بالمناسبة من التذيكر بفضيحة «ووتر غيت» والتي ضلع فيها الرئيس ريتشارد نيكسون، والتي ادت في نهاية المطاف الى استقالته، لتفادي محاكمته وسجنه، حيث جرى استبداله في الرئاسة الاميركية بنائبه جيرالد فورد في 8 آب 1974.
تدفعني نتائج تقرير لجنة الكونغرس، وما توصلت اليه من جديد لرئاسة الجمهورية الى استحضار كل مشاهد الفساد السياسي في لبنان، والذي وصل لدرجة انه بات شاملاً وكلياً، سواء من خلال قانون الانتخاب الراهن، والذي انتج هذا المجلس النيابي العاجز عن القيام بأهم وظائفه، والمتمثلة بانتخاب رئيس للجمهورية، قادر على تشكيل حكومة فاعلة بما فيها المؤسسات الامنية، والتي بدأت بوادرها من خلال الفراغ الذي بدأ بالحصول في مواقع بعض قياداتها الرئيسية بسبب وجود حكومة مستقيلة وغير قادرة على الاجتماع لاتخاذ القرارات في القضايا الهامة او المصيرية.

فشل المجلس النيابي الحالي خلال عشر جلسات في انتخاب رئيس للجمهورية، حيث تكررت نفس المشاهد المقيتة في تعطيل النصاب لانعقاد جلسة ثانية يجري خلالها الانتخاب بنصف عدد اعضاء المجلس زائد واحد. ولم يرعوِ النواب عن التصويت بورقة بيضاء او الامتناع لشعارات فارغة منعاً لحصول المرشح الوحيد ميشال معوض على الاكثرية اللازمة لانتخابه كرئيس. ويبدو بأن الجلسات المقبلة والمؤجلة الى العام الجديد لن تكون بأفضل من الجلسات العشر السابقة، حيث من المتوقع ان تستمر لعبة المصالح الخاصة للكتل، مع الارتهانات الخارجية، وخصوصاً تلك التي تعود لمحور الممانعة في تعطيل اجراء عمليات اقتراع متتالية تسهيلاً لانتخاب رئيس جديد وفق ما ينص عليه الدستور نصاً وروحاً. ويؤشر هذا الامر بصورة واضحة الى غياب حسن المسؤولية السياسية والوطنية والاخلاقية لدى القوات ولدى القوى السياسية التي تحركهم، وتفرض خياراتها الخارجية من اجل تعطيل جميع مؤسسات الدولة، والدفع نحو الانهيار الكامل.
ان حالة الفساد السياسي الشاملة والكاملة، والتي ابكت البطريرك الراعي في عظته قبل الميلاد، بعد ان عجز في كل دعواته المتكررة خلال شهرين للنواب لوقف لعبة المصالح الضيقة والاقدام على انتخاب رئيس ينقذ البلاد من الازمة المصيرية، هي ليست جديدة، حيث سبق ان وقع لبنان ضحية الانقسامات السياسية التي عطلت انتخاب رئيس للجمهورية مرتين في عامي 1988 و2008 كما عطلت تشكيل حكومات قادرة في كل العهود الممتدة منذ عام 1969، بسبب وجود منظمة التحرير في لبنان.
لا تقتصر وجوه الازمة الراهنة على تعطيل عملية انتخاب رئيس للجمهورية، بل تتعداها الى تعطيل جميع المؤسسات بدءاً من مجلس الوزراء من خلال منعه من الاجتماع للبت في القضايا الهامة او المصيرية وذلك على خلفية استقالة الحكومة، والذي اناط بها الدستور وظيفة رئاسة الجمهورية في حال فراغها، دون تحديد فيما اذا كانت حكومة فاعلة او حكومة تصريف اعمال. ويشكل هذا الجنوح السياسي في قراءة الدستور ارذل الشرور التي يتعرض لها لبنان وشعبه، من خلال العمل على تكريس الفراغ الكامل في السلطة، بالاضافة الى احلال حالة شريعة الغاب من خلال تعطيل اعمال السلطة القضائية وخصوصاً النيابات العامة.

في السياق نفسه لا يمكن ان ننسى ما تعرّض له القضاء من ضغوط لمنعه من السير في تحقيقاته لكشف جريمة مرفأ بيروت، وذلك بسبب المسؤولية المباشرة عند قوى سياسية ووزراء معروفين في حدوثها، مع عدد من النواب السابقين والحاليين بالاضافة الى رئيس جمهورية ورئيس حكومة سابقين.
سبق للشعب اللبناني ان اعلن ثورته في 17 تشرين 2019 ضد هذه الطبقة السياسية الفاسدة وطالب باسقاطها، ولكن نجحت القوى العميقة الجذور في السلطة باستعمال كامل ادواتها المشروعة وغير المشروعة لاسقاط الثورة وقمعها، كما نجحت في استعمالها للنظام الطائفي وللرشاوى المالية في ظل قانون انتخابي مذهبي للعودة بكامل عديدها الى المجلس الجديد، وبالتالي الهيمنة من جديد على مقدرات السلطة والوطن.
في النهاية لا بد من الاستنتاج بأن الدستور والقانون منتهكان من قبل من يفترض بهم ان يكونوا حراس الصيغة وحماة الديمقراطية. ففي ظل غياب المسؤولية العامة لا امل في استمرار الديمقراطية والجمهورية ولا بد فعلياً من الدعوة الى مؤتمر دولي لانقاذ لبنان.
شتّان ما بين المجلس والكونغرس

المصدر
العميد الركن نزار عبد القادر - اللواء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى