إقتصاد

السوق السورية متعطشة للعملة الصعبة والدولار اللبناني يروي ظمأها

منذ أكثر من شهر وسعر صرف الدولار لم يهدأ. فهو تحرك صعودا من نحو 39 ألف ليرة الى أكثر من 46 ألفاً ليل أمس. وقبل ذلك كان مصرف لبنان يتدخل، وإن بشكل محدود، للجم اندفاعه واعادة تثبيت وضعيته نسبيا. ولكن يبدو أن “المركزي” تنحّى حاليا بعدما دخل عامل جديد على سعر الصرف، فارتأى الانتظار حتى تنجلي الامور وتوضع الاجراءات الكفيلة بلجم سعر الدولار على السكة.

العامل الجديد الذي ظهر أخيرا أتى عبر الحدود اللبنانية – السورية “طاحشاً” بقوة كانت كفيلة برفع سعر الصرف الى مستويات غير مسبوقة. فبعدما مدَّ المهربون اللبنانيون وعرابوهم السياسيون، السوق السورية بمعظم ما تحتاج اليه من مواد مدعومة على نفقة “الإحتياط” الذي تعرّض لنزف كبير قُدر بـ 8 مليارات دولار خلال عامين فقط، ها هو “الدولار اللبناني” يضخ وبكثرة في السوق السورية بعدما عمد بعض الصرافين اللبنانيين الناشطين على مقربة من الحدود السورية، وفي مناطق شتورة ومحيطها، وصولا الى بيروت، الى شراء الدولارات بكميات كبيرة بالليرتين السورية واللبنانية وضخها في السوق السورية، بعد هجمة غير مسبوقة للتجار السوريين لتخزين الدولار والتخلي عن الليرة السورية بسبب انهيار سعر صرفها أخيرا من 3800 ليرة للدولار الواحد، الى 6500 اليوم، حتى باتت دولارات لبنان تموّل اقتصادَين اللبناني والسوري.

وإذا كانت الضربات السياسية التي تلقّاها لبنان بحكم موقعه لم تسقطه كليا، إلا أن المعاناة من وجوده على حدود مفتوحة شبه كليا على مختلف أنواع التجارة غير الشرعية، والتهريب المنظم، جعله البقرة الحلوب التي يعيش الاقتصاد السوري على ضرعها، وخصوصا بعد اندلاع الثورة السورية، وما تبعها من عقوبات دولية قاسية على المسؤولين والمؤسسات ذات الطابع والدور الإقتصادي. هذا الواقع أفقد الدولة السورية القدرة على التصدير والإستيراد، وأغلق الأسواق العالمية إلا قلة منها أمام المنتجات والنفط السوري، بما حرم الخزينة والتجار السوريين العملة الصعبة، والقدرة على التعامل بها، فكانت عندذاك الضربة القاصمة لاستقرار سعر صرف الدولار في السوق اللبنانية، من دون إغفال أمراض الاقتصاد اللبناني التي كان لها دورها المشين أيضا.

وفي معلومات استقتها “النهار” من أكثر من مصدر، فإن ارتفاع سعر الصرف هو نتيجة المضاربات بين الصرافين غير الشرعيين، معطوفة على الطلب الهائل للدولار عبر الحدود اللبنانية – السورية. وتؤكد المصادر أن شراء الدولارات يتم بكثرة مقابل الليرة السورية، وكذلك الليرة اللبنانية وخصوصا عبر الحدود. وعزت المصادر شراء هذه الكميات من الدولارات الى النقص الهائل في العملات الصعبة في #سوريا توازيا مع انهيار العملة السورية، فالدولة السورية تعاني من أزمة اقتصادية حادة منذ سنوات طويلة بفعل الحرب الطاحنة التي مرت بها، فيما تشمل الازمة نقصاً في الوقود والطاقة والخبز، إضافة إلى انهيار في قيمة الليرة السورية ازدادت وتيرته اخيرا. أمام هذه المعطيات ليس مستغربا الارتفاع المفاجىء للدولار في السوق اللبنانية، على رغم دخول دولارات بكثرة وخصوصا مع زيادة التحاويل من الخارج، فيما يضخ مصرف لبنان دولارات مضاعفة لزوم الرواتب وبدلات النقل للقطاع العام وينوي ضخ أكثر من 100 مليون دولار غداً الجمعة لهذا السبب ايضا، وتاليا فإن العوامل المحلية غير مساعدة لارتفاع الدولار في هذه الفترة تحديدا مقارنةً مع الاشهر السابقة.

وإذ تتحدث المعلومات أيضا عن اتصالات يجريها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالمعنيين في الحكومة بغية البحث في اجراءات لضبط سعر الصرف، علم أن مصرف لبنان يمكن ان يتدخل بمبلغ 500 مليون دولار لضبط تفلت الدولار من دون تحديد الزمان والمكان، لكن “المركزي” يتريث بالتدخل حاليا قبل اتخاذ الاجراءات اللازمة من الحكومة لضبط خروج الدولارات من السوق اللبنانية الى سوريا، حتى لا تضيع أمواله هدراً.

بَيد أن مصادر أخرى قرأت الارتفاع الكبير في سعر الصرف من زاوية أخرى، إذ تؤكد أنه مع تجاوز سعر صرف الدولار في السوق الموازية الـ 46 ألف ليرة، فرض مصرف لبنان واقعاً جديداً يحاول إستثماره لمصلحة تمويل النفقات الجديدة التي أقرها قانون موازنة 2022. فالسحوبات تحت أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 151، والتي تسمح للمستفيدين بشراء دولارات على سعر ‏منصة “صيرفة”، عاودت نشاطها لأن انتظار الـ 15 ألف ليرة لدولار السحوبات الاستثنائية في شباط 2023، في ظل هذا الفارق بين سعر منصة “صيرفة” والسوق الموازية (12400 ليرة)، بات مكلفا.

هذا الإرتفاع في سعر الصرف والذي يواكبه تريث من “المركزي” في التدخل للجم ارتفاع سعر صرف الدولار، يفتح شهية المضاربين لتوقّع الكثير من الإرتفاع. وفي الوقت عينه، فإن فقدان الثقة بمكونات السلطة الحاكمة، قد يدفع بالتوقعات إلى احتمال مفاجأة تأتي من حاكم مصرف لبنان تحدث هبوطا حادا في سعر صرف الدولار في السوق الموازية (وقد سجل الماضي القريب سابقة في هذا الامر). كل ذلك يدفع حاملي ‏الدولار “الفريش” في خزناتهم الحديدية في المنازل إلى عرضها للبيع للإفادة من الظرف الاستثنائي.

في الأشهر القليلة الماضية، أسس مصرف لبنان قواعد اشتباك جديدة مع أسواق الصرف ساعدته على تأمين قسط من الإستقرار في أسعار الإستهلاك، وضبط التقلبات في سعر الصرف. ونجح في استبدال الإضطرابات بسعر الصرف بتقلبات، وهذا إنجاز يسجل لمصلحة “المركزي”، إذ تسجَّل رواتب القطاع العام في صندوق نفقات الحكومة بالليرة اللبنانية لكن “المركزي” يصرفها بالدولار عبر منصة “صيرفة”، بما يعزز القدرة الشرائية لرواتب القطاع العام من دون تسجيل عبء إضافي على الخزينة العامة من خلال الإفادة من الفارق بين سعر صرف منصة “صيرفة” والسوق الموازية. وتقول المصادر إن مصرف لبنان يحافظ على كتلة نقدية بالدولار الأميركي كافية لصرف رواتب القطاع العام (وجزء يخصص للقطاع الخاص) ويستخدمها لهذه الغاية للتخفيف من الضغوط التضخمية التي قد تنتج من الإرتفاع في حجم الكتلة النقدية ‏بالليرة.

خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي‏ جزم بان “أسواق الصرف ستشهد تقلبات بمنحى تصاعدي للوصول إلى سعر صرف جديد”، متوقعا أن يراوح سعر الصرف ما بين 45 الف ليرة و50 الفا للدولار الواحد مع نهاية الفصل الأول من السنة المقبلة 2023، مع بقاء القيمة الشرائية لليرة عينها عندما تستقر السوق على سعر الصرف الجديد، فيما يتجه سعر “صيرفة” ببطء نحو الـ 35 الف ليرة.

وأكد ان الأرضية الإقتصادية تتحضر لسعر الصرف الجديد، بإنتاج وإخراج من مستوردي المواد الغذائية، وتجار المال (نقاط الصيرفة صيادي الدولار، الأبيض للتداول لجني الأرباح السوداء)، والمضاربين، والمحتكرين، فيما غياب الرقابة والقضاء سيؤسس لمساحة إضافية لتجفيف القدرة الشرائية لأصحاب الدخل، أما المتضرر الأكبر فهو موظف القطاع العام.

ولم تنفِ مصادر اقتصادية أن “عامل المضاربة هو المسيطر في السوق، لأن نظام العرض والطلب لا ينطبق على ما يحصل في السوق، خصوصا أن العرض يفوق الطلب بسبب دخول الدولار إلى البلد، إلا أن الواضح أن هناك من يشتري الدولار من السوق بكثرة”.

ولم تستبعد المصادر أن يكون مصرف لبنان هو من يشتري لزيادة إحتياطاته من العملة الصعبة لجبه استحقاقات سنة 2023 التي ستكون صعبة ماليا، اضافة الى ما يتطلبه قطاع الكهرباء من أموال لزيادة ساعات التغذية.

وإذ حذرت المصادر من مخاطر الإجراءات الظرفية في إدارة الأزمة الاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان منذ أكثر من 3 سنوات، أكدت أن لا بديل من الإصلاح لوضع لبنان على سكة الإنقاذ والإنعاش والتعافي والنمو الإقتصادي.

المصدر
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى