طباعة العملة وخلقها… بين البنك المركزي والمصارف
تاريخياً تطورت وسائل الدفع من مقايضات الى عملة معدنية ثمّ الى ورقية واليوم نشهد تحوّلاً الى العملة الرقمية.
في البدء كانت العملة المعدنية، النحاسية، الفضية والذهبية هي التي سهّلت التجارة، الى ان بدأت البنوك الخاصة تصدر الـ«banknotes»، وهي عبارة عن عملة ورقية تؤخذ الى المصرف لتحويلها الى عملة معدنية، ما سهّل ظاهرياً عمليات التجارة ولكن كدّس المعادن الثمينة لدى المصارف الخاصة، الى ان قررت المصارف المركزية (الحكومات) توحيد العملة واحتكار طباعتها.
في أوروبا بدأت طباعة العملة الورقية في عصر التوسّع الاستعماري لبلدان أفريقيا وآسيا وأميركا. واستعملت العملة كوسيلة حرب في سبيل تغيير القدرة الشرائية لعملة بلد معاد، فاذا زادت قوّتها اصبحت سلعها باهظة اما اذا انخفضت قيمتها تنخفض قدرتها الشرائية. الامر الذي أدى الى التسابق على الثروات والمعادن الثمينة التي كانت تغطي قيمة العملة الورقية لبلد ما.
1929 وما بعده
أما الانهيار الكبير عام 1929 والذي دام حوالى عشر سنوات، فكان نتيجة عدم تخفيض نسب الفوائد وعدم ضخّ السيولة في النظام المصرفي ما خلق حالة هلع وأدى الى افلاسات كبيرة، بوضعية تشابه حالة بنك انترا في لبنان التي حصلت في ستينيات القرن الماضي. الامر الذي فرض التخلّي الكلّي في الولايات المتحدة عن مبدأ تغطية العملة بالذهب لتسهيل الطباعة وسرعة التدخل في الازمات.
وهذه الاستراتيجية كان قد صرّح عنها الرئيس الاميركي فرانكلن روزفلت (الرئيس الثاني والثلاثين للولايات الاميركية المتحدة- 1933- 1945)، في تصريحه عن رغبته اخراج البلاد من نظام العملة المغطاة بالذهب التي اثارت حفيظة الاقتصاديين في ذلك الوقت، حيث اعتبروا ان رفع التغطية الذهبية عن العملة الورقية سيؤدي الى تضخم لا يمكن ضبطه والى الفوضى. فسحب التغطية الذهبية للعملة تجعلها مجرّد اوراق بلا قيمة.
فراحت الكتلة النقدية عالمياً تتضخّم وتكبر الى ان وصلنا منذ سنة 2020، وبفعل جائحة كورونا، الى تضخم عالمي مرعب: إرتفاع معدّلات البطالة، كتلة عملة ورقية ضخمة، غلاء معيشي.
إن احد اسباب التضخم هو سياسة الاقراض الدفتري دون انتقال الـ«banknotes» فعلياً الى المدين، فراحت المصارف تقرض وتستثمر اموال وارباح دفترية غير مغطاة فعلياً بالعملة الورقية (كي لا نذهب أبعد ونقول بالذهب أو موجودات قابلة للتسييل بسرعة)، متّكلة على التدخل المعتاد للمصارف المركزية لنجدتها في ما لو وقعت الكارثة.
Fractional Reserve Banking
هي آلية اقتصادية معتمدة من المصارف تقضي بالحفاظ على نسبة من قيمة الوديعة نقداً، جاهزة للسحب لدى صناديق المصارف وتجيز لها استثمار باقي قيمة الوديعة عبر آلية القروض او غيرها من الاستثمارات. عادة ما يصار الى تسديد الفوائد للمصارف على المبالغ الاحتياطية النقدية التي تكون لديها.
تستعمل هذه الآلية من قبل المصارف المركزية لتحديد سياساتها النقدية، فزيادة الاحتياطي يخفف من حجم الكتلة النقدية، أما تخفيض قيمته يضخّ المال في الدورة الاقتصادية.
في الولايات الاميركية المتحدة كان «national bank act 1863» يفرض على المصارف الابقاء على 25% من قيمة الودائع نقداً، كاحتياطي جاهز للدفع. ثمّ أتى الـ«federal reserve act 1917» ليضع نسباً متفاوتة وفق نوع المصارف 13%- 10%- 7%.
بين سنوات 1950 و1970 جعل البنك الفدرالي نسبة الاحتياط النقدي 17.5%، و بين 8 و 10% منذ سبعينيات القرن الماضي لغاية 2010.
ابتداء من 26/3/2020 تمّ إلغاء موجب الحفاظ على الاحتياطي النقدي، الامر البالغ الاهمية والذي يجعل القانونيين والاقتصاديين حذرين، ويبشّر بانهيار اقتصادي كبير.
فماذا لو بدأ المودعون يطلبون سحب ودائعهم نقداً، ألا يضعنا ذلك في وضع الانهيار العالمي لسنة 1928-1929؟ هل هذه الاجراءات مقصودة؟ هل هذه الاجراءات هي تحضير لاطلاق عملة جديدة؟ لماذا تلجأ المصارف المركزية منذ سنة 2020 الى طباعة العملة الورقية وتضخيم حجم الكتلة النقدية؟ كلها تساؤلات مشروعة في ظل توقف معظم دول العالم منذ منتصف القرن الماضي عن تغطية عملتها بالمعادن الثمينة كالذهب مثلاً.
إحدى الاشكاليات تكمن في المفعول المضاعف للـ«Fractional Reserve Banking». للمثال: اذا سلّمنا جدلاً ان نسبة الاحتياطي هي 10% وان مودعاً يضع 1000 دولار في حسابه المصرفي، فيكون 100 دولار هو الاحتياط ويقوم المصرف باقراض الباقي واستثماره اي مبلغ 900 دولار، فيصبح حجم الكتلة المالية المضخة في الاقتصاد 1900 دولار.
والتسعماية دولار تعتبر ايداعاً جديداً يمكن استعماله فيوضع 10% احتياط ويستثمر الباقي اي 810 دولارات ليصبح المجموع 2710. فتكون القيمة الفعلية والمادية 1000 دولار ما يسميه الاقتصاديون بـM0. وتصبح القيمة الدفترية 2710 تحت اسم M1.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو الحد الاقصى للمصارف لخلق الاموال؟
إستعمل المصرفيون معادلة تسمى بـ:«money multiplier= 100/reserve ratio».
لتبسيط الموضوع: إذا كانت نسبة الاحتياط 10 والمبلغ الاساسي هو 100 د.أ بالتالي يمكن للمصرف بهذه المعادلة خلق 1000دأ على شكلM1 اي عشرة اضعاف المبلغ الفعلي المودع لديه.
فتكون النتيجة للعميل، مبالغ مقيدة في حسابه دون ان تكون هذه الارقام مغطاة بالعملة الورقية!!!!!!
طباعة العملة وتأثيرها على التضخم
إن طباعة العملة محصورة بالمصارف المركزية، وليس لها تأثير مبدئي على التضخم اذا تمّت مراعاة مبدأ العرض والطلب ومستوى التسعير (price level)
لتبسيط الموضوع: العملة هي سلعة ككافة السلع، اذا زاد الطلب عليها ارتفعت قيمتها واذا قلّ الطلب عليها انخفضت هذه القيمة، فاذا رافق طبع العملة حجم الزيادة في الطلب بقية قيمة العملة مستقرّة.
نضرب مثلاً: اذا كان انتاج الحمضيات اكبر من الطلب عليها، فأسعارها تتهاوى حكماً، اما اذا كان الطلب اكبر من الانتاج فان سعرها يزيد، بينما اذا ترافقت زيادة انتاج الحمضيات مع زيادة الطلب عليها فان سعرها يبقى ثابتاً.
كما انه يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار لدى طبع العملة موضوع الـ«price level» اي مستوى التسعير، فهذا المؤشر له معادلة لاحتسابه (لن ندخل في تفصيلها سعياً وراء تبسيط الامور). فكلما كان هذا المؤشر مرتفعاً تكون القدرة الشرائية للاموال متدنية، وبالعكس عندما ينخفض المؤشّر تزيد القدرة الشرائية للاموال.
ماذا حصل في لبنان ؟
هل قامت المصارف في لبنان باستعمال آلية الـ«Fractional Reserve Banking»؟ هل اخذ مصرف لبنان بعين الاعتبار المبادئ الاقتصادية لدى طبعه العملة وزيادة حجمها؟ أقدم مصرف لبنان منذ 2016 على ابتكار هندسات مالية بهدف نجدة بعض المصارف المتعثرة. واذا عطفنا الموضوع على التراكمات الناتجة عن اقتراض الدولة بالدولار الاميركي وعدم وجود قطاعات انتاجية فعالة حيث كان الاقتصاد ريعياً، فكانت الكارثة الاقتصادية حتمية.
الى ذلك، لم يلتزم مصرف لبنان بوجوب ان تكون الليرة اللبنانية مغطاة بالذهب وراح يطبع العملة الى ان اصبحت قيمة الليرة في الحضيض، مهملاً المبادئ الاقتصادية الدنيا التي ترعى طباعة العملة، خارقاً الموجبات الملقاة على عاتقه في قانون النقد والتسليف (المواد 70 وما يليها) المتمثلة بالمحافظة على قيمة النقد وسلامته.
وأهمل مصرف لبنان الرقابة الفعلية على المصارف لناحية مراقبة ما اذا كانت هذه الاخيرة قد لجأت الى معادلات اقتصادية بهدف زيادة رأسمالها وأرباحها دفترياً (منها آلية«Fractional Reserve Banking» ومعادلة money multiplier )، ما يمكن ان يكون قد أدى الى جعل حسابات المودعين تتضخّم بالعملات الاجنبية دون تغطية نقدية ورقية فعلية لها، الامر الذي يوجب تحقيقاً قضائياً لتأكيده.
جرم احتيال موصوف
إذا صحّت واقعة لجوء المصارف الى آلية الاقراض هذه، فنكون امام جرم احتيال موصوف وفق القانون اللبناني عبر خلق المصارف لمشاريع وهمية وايراد مبالغ في دفاترها غير متوافرة بشكل نقدي. بالاضافة الى ذلك، تكون المصارف قد وزّعت ارباحاً وهمية على المساهمين واعضاء مجالس الادارة، ما يؤدي الى اعتبار تحويلهم لها الى الخارج يندرج في اطار تهريب الاموال، لانهم عالمون بانتفاء التغطية النقدية لها تبعاً لتطبيقهم لمثل هكذا تقنية اقتصادية.
إثر ثورة 17 تشرين وإقفال المصارف ابوابها، هلع عملاء المصارف وراحوا يطالبون بودائعهم، وبدلاً من الاستجابة الى طلباتهم عبر ضخ الدولار في الاسواق لتهدئة الوضع، قام مصرف لبنان بالابقاء على الاحتياطي الالزامي بهدف دعم مؤسسات الدولة المهترئة وكانت قيمة الاحتياطي في ذلك الحين تتجاوز الـ30 مليار دولار، ما ادى الى خسارة المليارات من الدولارات خلال السنتين الاخيرتين، وإستنزاف احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية.
أعلنت الدولة تعليق دفع ديونها، اليوروبوند من دون خطة، ما سرّع الانهيار، وصحيح ان الدولة لا تعلن افلاسها، وصحيح ان مصرف لبنان لا يمكن اعلان افلاسه، انما اجازت المادة 16 من قانون النقد والتسليف حلّه بموجب قانون يحدد طريقة تصفيته. هل هذه هي الغاية؟
ذاب الثلج وظهر المرج
إذا ألقينا نظرة موضوعية على الوضع اللبناني، وطريقة مواجهة الازمة المالية من قبل السياسيين ومصرف لبنان، لا يسعنا سوى القول بانه تمّ التحضير للأزمة الراهنة، وتمّ اهمال سبل المعالجة التي كانت قد تنفع ولو جزئياً:
فلم يصدر قانون الكابيتال كونترول في الايام الاولى للأزمة ما أدى الى تهريب مليارات من الدولارات الى الخارج.
لم يُتخذ اي اجراء اصلاحي، ان بموضوع الكهرباء ام بموضوع الحدّ من التهريب.
لم تُتخذ اي اجراءات لاصلاح القطاع العام، وكأن هدمه وتفكيك الدولة هو الهدف.
وغيرها من التدابير التي لم تؤخذ بعين الاعتبار لوقف التدهور.
لا بل اكثر من ذلك، تعمدت الدولة تعطيل القضاء واذلاله، منعاً من ملاحقة المصارف والبدء بالتحقيقات المالية المفروضة لتحديد المسؤوليات اصولاً.
ونسأل هل الهدف من كافة هذه الممارسات الاستيلاء على احتياطي الذهب؟ هل نحن امام محاولة تعديل قانون منع التصرّف بالذهب، ام اصدار قانون ينظم حلّ تصفية مصرف لبنان؟ في الحالتين النتيجة واحدة، الاستيلاء على الذهب الملاذ الوحيد في ظلّ الازمة الاقتصادية العالمية.