مقالات خاصة

عندما كانت بيروت تقرأ

بقلم علي الصاوي

قديما كانت مصر تؤلف الكتب، وبيروت تطبعها وبغداد تقرأها، عبارة تاريخية كانت تُجسد حالة التكامل الفكري والثقافي بين الدول الثلاث، وكيف كانت شعوب تلك الدول شعلة متقدة فكريا وثقافيا، حتى تَكللت هذه الصورة التكاملية عندما أطلقت بيروت عام 1956 أول معرض للكتاب في الوطن العربي ليكون بمثابة درة تاج الإنتاج الفكري والأدبي لست الشام وعروسها ولأم الدنيا وعراق الرافدين.

كانت مكالمة بينى وبين أحد الأصدقاء اللبنانيين حول معرض الكتاب القادم في لبنان ومن يحرص على حضورة واقتناء جديده من الإصدارات المختلفة، لكنها مكالمة أدمت القلب وأحرقت الكبد حزنا وكمدا على ما وصلت إليه بيروت من تراجع ثقافي وقطيعة أدبية بين معظم أبنائها وبين القراءة وجفاء وهجر اللغة، فقال لي: إن كثيرا من اللبنانيين أعرضوا عن القراءة الأن، فتجد ألسنتهم حاذقة عند التحدث بلغات أخرى غير العربية، لكنهم أمام لغتهم الأم يتحولون إلى صم بكم؛ فقلت له: كيف لبلد أنجبت جبران خليل جبران لا تقرأ؟ كيف لبلد أنجبت ريحانة الفن فيروز والتي ما زالت أغانيها تشنف الأذان كل صباح لا تقرأ؟ كيف لشعب خرج من بينه ميخائيل نعيمة ومارون عبود وإيليا أبو ماضي وأديب إسحاق ونجيب حداد لا يقرأ؟

فوالله لو كان هؤلاء من بلدي لصرت قارئا نهما وإن كنت كارها، فما فائدة الورود وعطرها إذا الشعوب لم تشم شذاها؟ وتلك الأسماء هى حديقة غناء أصلها ثابت في أرض الفنون والأدب وفروعها تصل الى السماء؛ سقاها ماء الوحي وغيث الحكمة فأمطرت بيروت ثقافة وفكرا ما زال ينهل منهما ناشئة الأدب وشداته، فلا حاضر لأمة لا تقرأ ولا مستقبل لبلد بغير كتاب، فالإنسان يموت في المكان الذي تُحرق فيه الكتب وتباع بالكيلوات على عربات الروبابيكيا بثمن بخس.

فكيف كانت بيروت عندما كانت تقرأ؟

كانت كالعذراء في خدرها خجولة تأثر القلوب ويأتيها الخطاب من كل بلد لخطب ودّها فلا يبرحونها حتى يبلغوا غايتهم، فإن عجزوا التمسوا منها نظرة رضا أو حنان عاطفة تطفئ مراجل العشق التى تغلي في صدورهم من حبهم وولعهم بها، ساحرة الجمال بارعة القوام لا تعرف للقبح سبيل، مضيافة كريمة، موسيقاها تراتيل وطنية وترانيم عشق يعزفها الأخوان رحباني وتتغنى بها فيروز بصوت عذب رخيم فيجتمع حول صوتها المارة، وتسكن البيوت في كل حارة في حضرة الإبداع والأصالة.

وفي ساحة الحمراء تجمع بين المحبين والمثقفين ينشدون الشعر ويعزفون أجمل الألحان؛ أسواقها القديمة جذبت عشاق الرسم والتصوير تنقل عدساتهم وريشتهم ملامح حضارات عريقة مرت عليها وكانت جزء منها، ليسطر التاريخ اسمها بين أجمل البلاد في العالم، فحازت ألقاب عدة لا تليق بألقها وجمالها لعجز اللغة عن وصفها، كل مكان فيها ينبض بالثقافة والحضارة، عندما تسير بين أزقتها تشم عطر الكتب يفوح من بين جدرانها وعبير الفن يغمر حاراتها القديمة، وفي مكتباتها العتيقة تجد نفسك حين تنوء بك أعباء الحياة وتتوه بين ظلماتها.

فما أحوج هذا الجيل إلى آلة زمنية تعود به إلى عصر بيروت الذهبي ليعلم كم هو مقصر في حقها ولا يعرف لها قدرا ولا يرفع لها ذكرا، ولو نطقت بيروت لصرخت في وجوههم وقالت: لو أعلم أن تلك نهايتي وقيمتي بينكم، لضربت على فلك الأرض ليمسك عن الدوران ليقف عند من كان يعرف قيمتي جيدا ويحفظ إرثي ولا يتنكر لحضارتي؛ فأنتم أسوء خلف لخير سلف.

علي الصاوي

كاتب صحفي وروائي مصري رئيس تحرير موقع الشرق مؤلف كتاب ترانيم محب وصرخة قلم، ورواية إسطنبول 2020 "رواية بين دولتين"

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى