موازنة اللحظات الأخيرة في جلسة مناقشتها.. أسيرة الأرقام والإنقسام
كتبت كارين عبد النور :
ردّ الموازنة إلى الحكومة هو ما يتوجّب فعله لاحتوائها على الكثير من الثغرات غير القابلة للنقاش أمام مجلس النواب. هذا، بالمختصر المفيد، ما طلبته النائبة بولا يعقوبيان خلال جلسة المناقشة تعقيباً على ما حملته الموازنة شكلاً ومضموناً. وقد استند ذلك الطلب إلى دراسة قدّمتها يعقوبيان مستقاة من مواد النظام الداخلي لمجلس النواب والدستور. ومن بين الملاحظات التي طرحتها: تعديل المادة 81 المتعلّقة بالأملاك البحرية والتي تنصّ على تمديد مهلة الإستفادة من الحسم الكلّي على بدلات إشغال الأملاك العامة البحرية، في حين أن القانون 64 الممدّدة أحكامه لم ينصّ على إعفاء أحد من بدلات الإشغال – أي بدلات الإيجار – بل على إعفاء جزئي من الغرامات في حالات معيّنة؛ والاعتراض على إعفاء الودائع المصرفية الجديدة من الضرائب في حين أن تقاضي الضرائب على الودائع القديمة المحجوزة ما زال سارياً.
وإذ اعتبرت أن إقرار الموازنة بشكلها الراهن «سيؤدّي ليس فقط إلى ثورة شعبية، بل إلى تضخّم كبير ومزيد من الإنهيار»، رأت أن «الإيرادات غير مدروسة ووهمية، والحكومة باعترافها ليست متأكّدة من إمكانية تحصيلها». وأضافت أن إقرارها يجب أن يرتبط بخطة تعافٍ حقيقية شاملة وقوانين إصلاحية، وهذا ما يضرّ مباشرة بمصالح الطبقة السياسية الحاكمة. والحال أن اعتماد أكثر من سعر صرف للدولار الجمركي، على سبيل المثال، يختصر الحاجة إلى موازنة أكثر تماسكاً. «المطلوب أيضاً ليس قانوناً واحداً إنما سلّة قوانين تبدأ بمعالجة بنود ثلاثة: القطاع العام، المتضخّم بـ32 ألف وظيفة غير قانونية، الكهرباء والدين العام»، كما تقول.
أما عن تطيير نصاب الجلسة، فأوضحت يعقوبيان لـ»نداء الوطن» أنه «لم يكن لدينا النيّة في ذلك بحيث تطرّقنا فقط إلى مسألة ردّ الموازنة. لكن النائب ملحم خلف إقترح الإنسحاب إعتراضاً على طريقة التصويت. ولم نكن نتوقّع أن يكون عدد كبير من النواب قد سبقنا إلى الخارج، ما أفقد الجلسة نصابها». التراشق الكلامي داخل جدران المجلس ليس حتماً بالظاهرة الجديدة. فعن محاولة رئيس المجلس «تحجيمها» وتكرار توجيهه عبارة «اسكتي» لها، علّقت يعقوبيان: «ليست المرة الأولى التي أتعرّض فيها لهذا الموقف. نحن نخوض صولات وجولات في هذا الخصوص منذ العام 2018. لكن لا أحبّ أن أشخصن هذه الأمور، على بشاعتها، كون هدفي الأساس هو التركيز على المحاسبة والمساءلة والتشريع وتقديم ما يخدم الشعب. فمع رفضي المطلق هذا الخطاب، إلا أنني أخوض معاركي في سياق العمل التشريعي».
تحديث النظام الداخلي… متى؟
عضو كتلة الجمهورية القوية، النائب جورج عقيص، اعتبر بدوره في حديث لـ»نداء الوطن» أن طلب ردّ الموازنة لا يمكن تقريره مُسبقاً، إذ لربما كانت لدى الأكثرية النيّة في مناقشتها، وبالتالي لا يمكن افتراض ردّ أي مشروع قانون سلفاً. المشكلة الأكبر في نظر عقيص هي إبداء التعنّت حيال عدم تحديث النظام الداخلي لمجلس النواب وعدم اعتماد التصويت الإلكتروني الذي لا يحتاج سوى لقرار، على عكس ما يُشاع بأنه يتطلب تغييراً في الدستور. التطوّر التكنولوجي يوجب اتّباع هذه الآلية أسوة بغالبية البرلمانات في العالم، برأي عقيص الذي يضيف: «طالما أننا لا نعتمد التصويت الإلكتروني، ستبقى حالة الانزعاج المتبادل بين النواب ورئاسة المجلس قائمة. فمن شأن هذه الآلية أن تؤمّن مزيداً من الشفافية والعلنية في المواقف وأن تمنح الشعب القدرة على محاسبة النواب إن من خلال الإطّلاع على تصويتهم على مختلف القوانين أو على مواقفهم على صعيد الرقابة والتشريع».
المشكلة الأخرى التي برزت في جلسة مناقشة الموازنة تتلخص في العشوائية والارتجال في طريقة طرحها. «هي حالة لم أشهد لها مثيلاً طيلة سنتين ونصف من العمل النيابي، إذ يمكن وصفها بوصمة عار على كافة من حضروا في حين يتحمّل رئيس المجلس المسؤولية الأكبر في ما حصل»، كما يلفت عقيص. فالأرقام كانت من العشوائية بمكان أن أدّت إلى استدعاء مدير عام وزارة المالية لإدخال تعديلات عليها. وغياب أيّ دراسات يُحدَّد على أساسها سعر الدولار الجمركي خير دليل على ذلك.
كلام الوزير غير مقنع
بعض لغة التخاطب داخل المجلس غالباً ما يشكّل مادة للاستنكار أو التندّر. لكن ما حصل أثناء جلسة الموازنة كان، بتلك المعايير لا أكثر، خارجاً عن المألوف. وأوّل ما يحضر إلى الأذهان الطريقة التي طلب فيها الرئيس بري من وزير المالية، يوسف الخليل، التوقّف عن الكلام وحلول رئيس الحكومة مكانه. عقيص يعزو السبب في ذلك إلى أن رئيس المجلس استاء من طريقة عرض وزير المالية، إذ إن الأخير لم يقدّم خطاباً مقنعاً لا بالشكل ولا بالمضمون. «لقد أنقذنا أنفسنا حين قرّرنا الانسحاب من الجلسة وأسقطنا النصاب، ليس فقط لأن الموازنة بشكلها المعروض لا تفي بالغرض المطلوب، لكن لعدم قبولنا المشاركة في هذه المسرحية التراجيدية».
وعن سؤال حول ما تخبّئه جلسة الاثنين المقبل، أكّد عقيص أنه، في حال لم تتشكّل حكومة إلى حينه، «سنصرّ على أن يكون ثمة جلسة عامة لمناقشة الخطة. وطالما لم يتغيّر شيء في مضمون الموازنة ولا في مقاربة الحكومة الأزمةَ ومعالجتها، لن نقبل في أن نواصل مناقشتها».
هي ليست المرة الأولى التي يقاطع فيها نواب كتلة الجمهورية القوية الجلسات، أو ينسحبون منها ويفقدونها النصاب. أما اليوم، وعلى ضوء تماهيهم في عدد من الملفات مع النواب التغييريين وكتلة نواب الكتائب وبعض المستقلّين، فقد أصبحت الأرقام بين الطرفين المتعارضَين متقاربة جداً. وهكذا، يملك أي فريق من حيث المبدأ وفي أي لحظة القدرة على التعطيل. إلى أين تتجه الأمور إذاً؟ «نحن في حالة تردٍّ كبيرة بما يخص عمل السلطات وآمل، في حال تمكنّا من انتخاب رئيس، أن تتشكل حكومة جديدة ونعيد النظر كمسؤولين سياسيين بنوعية وكيفية ممارسة العملين التنفيذي الحكومي والتشريعي على السواء».
عن المادة 77
الخبير والمستشار في الصياغة التشريعية، المحامي نجيب فرحات، أكّد لـ»نداء الوطن» أن لكل نائب الحقّ في طلب ردّ أو رفض أي قانون، وذلك بحسب المادة 77 من النظام الداخلي. أما رئيس المجلس، فقد اعتبر أن المادة المذكورة لا تنطبق على جلسة مناقشة الموازنة وبالتالي لا يحقّ للنواب طرح ما إذا كانوا يريدون ردّ القانون أو إبقاءه إلّا بعد التصويت على النفقات. فهل هذا صحيح؟ «طبعاً لا، لأن المادة 77 ترعى كافة أصول التشريع في مجلس النواب وبالتالي هي ليست محصورة لا بالقوانين ولا بالقوانين المعجّلة المكرّرة ولا بتعديلات النظام الداخلي ولا حتى بقانون الموازنة. فبالنسبة إلى أي قانون يُراد تشريعه أو إقراره في مجلس النواب، من ضمنها التعديلات الدستورية، على الأخير الإلتزام بأحكام هذه المادة»، من وجهة نظر فرحات.
من ناحية أخرى، لفت فرحات إلى ضرورة أن تواكب محاولة تغيير واقع البرلمان سلسلة تعديلات، ليس أقلّها عرض كافة جلسات مجلس النواب علناً أمام الشعب اللبناني، خاصة تلك المتعلّقة بالنقاشات والتصويت، إضافة إلى اعتماد التصويت الإلكتروني الذي بات حاجة ماسة لا سيّما أن طريقة التصويت الراهنة تتّكل على «نظر رئيس المجلس». هو أمر غير مقبول، بحسب فرحات، الذي تابع متأسّفاً: «لا تزال جميع التعديلات على النظام الداخلي لمجلس النواب والمقدّمة من قِبَل النواب مرمية منذ سنوات في الأدراج بدلاً من أن تُعرَض على الهيئة العامة للمجلس للبتّ بها».
تأجيل إلى حين التأمين
نسأل عن التفسير القانوني لما حصل مع وزير المالية داخل الجلسة، فيجيب فرحات: «إضافة إلى غياب اللياقة في التخاطب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما أوحى هذا التصرف، فهو يشكّل أيضاً مخالفة دستورية. فقد نصّ الدستور على أن الوزراء يُعطون الحقّ بالكلام في مجلس النواب متى طلبوه ولا يحقّ لأحد مقاطعتهم، لأن دورهم الأساس يكمن في تقديم الإيضاحات للمجلس وتزويده بالمعلومات الكافية لإتمام عملية التصويت». ما حصل، في الواقع، لم يكن بمعزل عن عمق الأزمة المتمثّلة في كيفية تشكيل الحكومات واستشراء حالة التبعية للزعماء السياسيين الذين يقومون بتزكية وتسمية الوزراء، فتصبح أقوال هؤلاء وأفعالهم مرتبطة بشكل وثيق بغايات أو أهداف معينة. فرحات اعتبر أن أقل ما كان يتعيّن على وزير المالية فعله هو الاعتكاف وعدم الاستمرار في الحكومة طالما جرى التعاطي معه بهذه الطريقة كون الكرامة أغلى ما يملك الإنسان. وذكّر بأن الوزير المعني هو المعطّل الأول للتشكيلات القضائية المتعلّقة بتعيين رؤساء محاكم التمييز والتي عطّلت بدورها تحقيقات ملف انفجار مرفأ بيروت.
ماذا لو لم يتمّ تأمين نصاب جلسة الاثنين المقبل؟ «سيستمرّ تأجيل الموازنة إلى حين يتحقّق ذلك. لكن لا يجب أن ننسى أن المجلس النيابي سيتحوّل حكماً، ابتداء من 21 تشرين الأول، إلى هيئة ناخبة لرئيس الجمهورية، وبالتالي يُعلَّق دوره التشريعي حسب السائد لمدة عشرة أيام»، كما ينبّه فرحات. في مطلق الأحوال، لا جدوى فعلية من إقرار الموازنة في الربع الأخير من السنة، إذ يُعتبر ذلك عملياً، إن أُنجِز، مخالفة لحلوله آخر السنة المالية، وفق مطّلعين. ويتساءل هؤلاء إذا كان الهدف من «سَلق الأمور سَلقاً» هو الموازنة بحدّ ذاتها أم ما يُعرف بفرسان الموازنة – أي المواد التي تُحشَر في القانون حشراً لغرض تمريرها تحت الضغط وبغياب دراسة كافية في مجلس النواب. أما التخوّف من غياب النيّة البرلمانية لدى البعض في أداء الدور الأساس، وهو المحاسبة، فيبقى مشروعاً بنظر كثيرين.
لكن في زمن الاستحقاقات المتتالية، ما شهدناه الأسبوع الماضي وقد نشهد مزيداً منه الأسبوع المقبل قد لا يكون سوى «بروفا» لما هو آتٍ. فالمجلس إيّاه على موعد وشيك مع استحقاق منح الثقة لحكومة جديدة مُحتمَلة وانتخاب رئيس جمهورية مُرتَقب.