مقالات خاصة

العرب بؤساء الغربة

علي الصاوي

الغربة هي مرآة الجاليات المختلفة التي تكشف عن سماتها الاجتماعية وثقافتها السلوكية، وتعكس مدى متانة الأواصر والوعي بين أفرادها ومستوى الأخلاق في التعامل، ومن هنا تستطيع من خلال هذه الصورة، أن تحكم على واقع تلك الجاليات والمجتمعات الذين جاءوا منها، ومعرفة المفاهيم التي تشكل معتقداتهم ودوافعهم، وقياس روح العمل الجماعي ودوره في حياتهم.

وفي ظل الاضطرابات التي تعيشها البلاد العربية، كثرت حالات الهجرة والنزوح إلى الخارج، وضاقت أوضاعهم وتراجعت كثير من القيم السلوكية والفكرية، التي كانت قبل هذه الاضطرابات عُرّفا حاكماً يتحلّى به المجتمع، ومعيارًا يزن الأدب والاخلاق، لذلك كثرت حالات النصب والاحتيال والتعدّي على الآخر، في غياب تام لروح التعاون وشد العضاد في مواجهة صعوبات الغربة وتحديتها، فظهرت تلك الجاليات في صورة سيئة أفقدتها جزءاً كبيراً من تعاطف الشعوب الأخرى مع مأساتهم، وكانت ذريعة للمتربصين لرفضهم والدعوة إلى طردهم.

فمع ظهور نماذج ناجحة كافحت وتغلّبت على ظروفها الصعبة، إلا أننا لابد أن ننظر إلى الحالة الغالبة في الأمور بصفتها المقياس الذي يشكّل معيار الحالة السويّة التي نبنى عليها التصورات والنتائج، فقد أثبتت الجاليات العربية فشلها في تحقيق عنصر حيوي ومهم في ظل ما يعانون فيه من أوضاع سياسية ومعيشية صعبة في بلاد الغربة، وهو الانضواء تحت روح العمل الجماعي والتكافل الاجتماعي والوئام النفسي، فتحولوا إلى فرق متباينة كلٌ يدور في فلك طائفته التي ينتمي إليها، مزقهم الخلاف الفكري وطغت عليهم روح الفردية، يخدمون مصالحهم وأفكارهم المنتمين إليها أكثر من خدمة قضايا أمتهم وبنى جلدتهم، في مناخ يسوده الأنانية والتملق وحب الذات، إلا من رحم ربي.

كما قال شوقي قديما :
“كلٌ يؤيد حزبه وفريقه.. ويرى وجود الآخرين فضولا”

فكان لذلك بالغ الأثر في هدم جسور التواصل فيما بينهم واضطراب كثير من العلاقات على أكثر من صعيد، لم تستطع روح الوطنية والمعاناة المشتركة التي أخرجتهم من بلادهم، أن تخلق لديهم حب الآخر وبسط يد العون والمساعدة لأصحاب الظروف الصعبة، بل طغت الأنانية والاستغلال وانتهاز الفرص، وتفشي الغش والخداع في كثير من التعاملات.

في دراسة أجراها قسم الاجتماع بإحدى الجامعات العربية، للتعرّف على السمات الشخصية لمختلف الشعوب، قامت مجموعة من الباحثين بجلب عدداً من أفراد الجاليات الآسيوية ووضعت كل واحد منهم في غرفة، بمكان يسع عشرين شخصاً، مع توفير فرصة عمل لكل واحد منهم ،ثم جلبت عيّنة أخرى قوامها عشرين شخصاً من كل بلد عربي وفعلت معهم نفس الشيء، ثم جلبت مجموعة أخرى مختلطة من بعض البلاد العربية وتركتهم يعيشوا معًا، ومع الملاحظة المستمرة كانت النتيجة كالآتي :

استطاعت المجموعة الآسيوية أن تجلب عشرين شخصا آخر من بنى جلدتهم للتعايش معهم، والمشاركة في الطعام والشراب والإيجار بروح العائلة الواحدة، لتوفير النفقات وزيادة المدخرات ومساعدتهم في إيجاد فرصة عمل، بينما تناحرت المجموعات العربية ودب الخلاف بينهم، وآثرت الفردية على روح الجماعة والتعايش المشترك، بل إن البعض منهم ترك السكن وذهب ليعيش وحده، وهكذا فشلت الجاليات العربية في التعاون والمشاركة الفعالة بروح الجماعة واليد الواحدة! عجزوا عن لم شمل فتاتهم المتناثر وخلق قنوات تفاعل حقيقية، بل شاع بينهم مناخ التوتر والاستعلاء والاستبداد بالرأي، وهذا معبر عن حال بلادهم وما وصلت إليه من فرقة وانقسام، سببها الرئيسي هو الشخصانية وسيطرة روح الأنا عليهم في كافة مناح الحياة، ما يبيّن أن المشكلة لدي العرب ذات طابع نفسي تنشأ مع الأجيال إمّا لخطأ في التربية أو تلقين في المفاهيم أو لانحراف البيئة السياسية والأخلاقية.

يقول الكاتب والمفكر الجزائري “مالك بن نبي” في تشخيص آفة العرب: “إن مشكلتنا ليست فيما نستحقُ من رغائب بل فيما يسودنا من عادات، وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية، بما فيها من قيم الجمال والأخلاق، وما فيها من نقائص تعتري كل شعب نائم ”

لقد تفنن العرب في العزف على روح الفُرقة والانقسام على كل الأصعدة في الداخل والخارج، بما يخالف أبسط قواعد التقدم والقوة وهي الاتحاد وروح الجماعة والتزام صف الاعتدال، لذلك لا غرابة أن يستبد بنا الطغاة وينهب خيراتنا المستعمر، طالما ما زلنا كالخراف التائهة في الصحراء نناطح أنفسنا ويأكل بعضنا بعضا، لقد أثبتت الغربة أن العرب هم بؤساء هذا الزمان، ولا أمل في عودتهم من جديد إلا بروح الوحدة والاعتصام.

علي الصاوي

كاتب صحفي وروائي مصري رئيس تحرير موقع الشرق مؤلف كتاب ترانيم محب وصرخة قلم، ورواية إسطنبول 2020 "رواية بين دولتين"

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى