مقالات

هل تنجح الرقابة الرقمية في تعزيز دور التفتيش المركزي؟

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:

لم يكن سرّاً في يوم من الأيام أن لبنان بحاجة ماسة إلى إصلاح إداري مُلحّ ومشروع، بالفعل لا بالقول، في عملية جدّية لاستئصال الفساد المستشري في شرايين الدولة ومؤسساتها. «17 تشرين»، وما تلاها، ساهمت في تسليط مزيد من الضوء على خلفيات الحوكمة غير السليمة ومكامن الفساد في البلد، ما جعل تناول الكثير من المواضيع – المحرّمات متاحاً وأدى بكثيرين إلى تحسّس رقابهم على قاعدة «كاد المريب أن يقول خذوني». كل ذلك زاد الرأي العام يقيناً بأن البلد لن تقوم له قائمة طالما لم يجرَ وضع حدّ لذلك النهج المتجذّر. ولأن تفعيل الرقابة هو بمثابة مدماك أول، لا بل ركيزة أساسية، لتحقيق الإصلاح، راح الحديث عن عمل الأجهزة الرقابية ودورها لناحية إنجاز ما هو مطلوب يتكثّف. التفتيش المركزي يأتي في الطليعة.

صحيح أن التفتيش المركزي عمد في السنوات الأخيرة إلى تفعيل دوره من خلال مواكبة شكاوى المواطنين وتوجيه تعاميم إلى الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات طلباً لبيانات تتعلق بالهيكلية الإدارية والأطر القانونية كما الموارد البشرية والبناء والموجودات والإدارة المالية. لكن ذلك أثار مؤخراً جدلاً واسعاً حول «تجاوز» ما للصلاحيات المنوطة به. الكتاب الذي وجّهه رئيس مجلس الوزراء، نجيب ميقاتي، إلى رئيس إدارة التفتيش المركزي وموضوعه «صلاحيات إدارة التفتيش المركزي» بتاريخ 01/10/2021 أبرز تجلّيات ذلك الجدل. فقد انقسمت الآراء حوله بين مؤيد ومعارض. إذ في وقت اعتبر الكتاب أن في الأمر تخطياً من الإدارة لصلاحياتها، حيث يتوجب عليها عدم مراسلة الإدارات والمؤسسات العامة إلا من خلال رئيس مجلس الوزراء مع الأخذ بتوجيهاته، رأى البعض الآخر أن علاقة أجهزة الرقابة بمجلس الوزراء ليست سوى علاقة إدارية. أي لا يحق لرئيس الحكومة أن يملي عليها كيفية التصرف طالما لم تتخطَّ صلاحياتها.

من هنا نبدأ في محاولة لنتعرّف أكثر على صلاحيات التفتيش المركزي. ما هي أهدافه وماذا عن الإنجازات والعوائق والخطط المستقبلية لتخطّيها؟ أسئلة كثيرة طرحتها «نداء الوطن» على رئيس هيئة التفتيش المركزي، القاضي جورج عطية. إليكم التفاصيل.

الأهداف… الصلاحيات والهيكلية

أنشىئ التفتيش المركزي، التابع لمجلس الوزراء، كجهاز رقابي محوري على كافة أعمال إدارات الدولة والمؤسسات العامة، في الثاني عشر من حزيران 1959 عبر مرسوم اشتراعي حمل الرقم 115. وتشمل صلاحياته بموجب المرسوم جميع الإدارات العمومية والمصالح المستقلة والبلديات وجميع الذين يعملون فيها بصفة دائمة أو موقتة، باستثناء القضاء والجيش وقوى الأمن والأمن الداخلي والأمن العام بحيث لا تخضع هذه الأجهزة للتفتيش المركزي إلا في الحقل المالي. وبحسب المادة 1 من المرسوم رقم 2460/59، يتألف التفتيش المركزي من الهيئة، الديوان، إدارة التفتيش المركزي وإدارة المناقصات. إدارة التفتيش المركزي تتألف من المفتشية العامة الإدارية والمفتشيات العامة الفنية (هندسية، تربوية، صحية، اجتماعية، زراعية، مالية وخارجية). الهيئة، بدورها، تتألف من كل من رئيس التفتيش المركزي (رئيساً)، المفتش العام المالي (عضواً) والمفتش العام التربوي (عضواً). نسأل في هذا السياق عطية عن الهيكلية الحالية، فيجيب: «لقد تجاوز الشغور النصف وأكثر في بعض المفتشيات العامة. أما على مستوى ملاك الإدارة، فلم يُعدَّل ملاك التفتيش المركزي منذ العام 1959، علماً أن البلديات والإدارات والمؤسسات العامة تضاعف عددها وعديدها مرات عدة منذ ذلك الحين».

في ما خص الأهداف، يلخّصها عطية بما يلي: المساهمة في تطوير فعالية الإدارة العامة من خلال تحقيق تنسيق أفضل بين مختلف وحداتها، ترشيد الإنفاق العام، تقييم الأداء بهدف معالجة أي خلل في سير العمل، وإبداء المشورة واقتراح التوصيات لتطوير أساليب العمل الإداري ومتابعة تنفيذها من أجل ضمان جودة الخدمات المقدّمة للمواطن ولغرض مكافحة الفساد. فالشعار الأساس هو «الرقابة والتوجيه والإنماء» تحقيقاً لرؤية تضمن الاستقلالية في الأداء من أجل المساهمة في النهوض بالإدارة العامة والعمل على إرساء القوانين والحكم الرشيد، خدمة للمواطنين وتعزيزاً لثقتهم بالدولة. فهل تتطابق تلك الأهداف وذلك الشعار مع الواقع؟

إدارات خارج الرقابة وإمكانيات شبه معدومة

نغوص أكثر في صلاحيات التفتيش المركزي، إذ هي تشمل كامل القطاع العام بإداراته العامة والبلديات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة، مع مراعاة خصوصية البعض منها. فالمرسوم الاشتراعي رقم 59/115 حدّد المهام الأساسية للتفتيش المركزي في المادة الثانية منه، وهي: مراقبة الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات والمؤسسات على كافة أنواعها، السعي إلى تحسين أساليب العمل الإداري، إبداء المشورة للسلطات الإدارية عفواً أو بناء لطلبها، إضافة إلى تنسيق الأعمال المشتركة بين عدة إدارات عامة والقيام بالدراسات والتحقيقات والأعمال التي تكلّفه بها السلطة. المهام، بالطبع، متشعّبة وبعضها صعب الإنجاز. نذكر هنا أن بعض المؤسسات استُثنيت من سلطة التفتيش المركزي كما أن أعمال رؤساء وأعضاء مجالس البلديات لم تعد خاضعة هي الأخرى لرقابته إنما لهيئة تأديبية خاصة. لكن، إذا كان منطق تطوير الرقابة يستند إلى مبدأ الشمولية، ألا يجب أن تخضع جميع الجهات التي تُموَّل من الموازنة العامة وتؤدي خدمات للمواطنين لرقابة التفتيش المركزي من ناحية حسن التصرّف بالمال العام، والرقابة ليس على المصاريف وحسب، إنما على جباية الأموال العامة والضرائب والرسوم أيضاً؟

نأتي على الإمكانيات. ففي ظل الأوضاع الراهنة في البلد والأزمات المتلاحقة التي تعصف به، يشير عطية إلى أنها أصبحت شبه معدومة وأن «عمل التفتيش المركزي يجري باللحم الحي ومن خلال الإرادة الصلبة لدى الجهاز الرقابي والإيمان بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه كما اختباره الملموس خلال العامين الماضيين لإمكانية إحداث تغيير جذري على صعيد مراقبة العمل الإداري».

رغم العوائق، تمكّن التفتيش المركزي من تحقيق إنجازات عدة من خلال العمل على تفعيل أداة رقابية رقمية. فعلى سبيل المثال، تم شبك البلديات والمحافظين والقائمقامين مع وزارتي الداخلية والبلديات والصحة العامة والصليب الأحمر اللبناني والمختبرات كافة في معرض مكافحة جائحة كورونا. كما تم تعزيز عمل السلطات المحلية والتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية لتكوين قاعدة بيانات تتعلق بالأُسر التي تضرّرت نتيجة الجائحة بالتعاون مع البلديات، وذلك بواسطة منصّة IMPACT.

التنمية الريفية والمحلية لها حصّتها أيضاً. فقد تم تعزيز عمل السلطات المحلية لجهة تكوين قاعدة بيانات، حيث قامت البلديات بتعبئة استمارات تتعلق بواقع المدن والبلدات الاجتماعي، الثقافي، التربوي، الخدماتي، الصحي، الاقتصادي والبيئي. ذلك أن قاعدة البيانات تلك تساهم في تسهيل رسم السياسات العامة لتلك المدن والبلدات. ثم هناك الخطة الوطنية للقاح كوفيد-19 التي نُفّذت بالتعاون مع وزارة الصحة العامة حيث سُجّل، للمرة الأولى في تاريخ الخدمة العامة، استهداف الخطة للمواطنين من مبدأ الشفافية والعدالة الاجتماعية تزامناً مع مراقبة كافة مراحل تنفيذها – تفادياً للأخطاء والشوائب – وإصدار تقارير وتوصيات مرتبطة بها. إذ يشير عطية إلى أن «نجاح الخطة داخلياً ساهم في تحقيق معادلة شهادة اللقاح أوروبياً». أضف إلى ذلك اعتماد اللجنة الوزارية المولجة تنفيذ مشروع البطاقة التمويلية على الإدارة الرقابية للتفتيش المركزي في تنفيذ برنامج شبكة «دعم» للحماية الاجتماعية مراعاة للشفافية في كافة مراحل التسجيل، العدالة الاجتماعية في الاستفادة من الدفعات النقدية، والمحاسبة من خلال إصدار تقارير لكافة مراحل التنفيذ مع معالجة آنية للمشاكل في ظل احترام أمن وخصوصية البيانات. إنجازات تدخل أساساً في إطار العمل التنفيذي فماذا عن العمل الرقابي؟

التدخلات السياسية أيضاً وأيضاً

التمسك بالذهنية القديمة السائدة في إنجاز العمل وتقديم الخدمة العامة للمواطنين يبقى للأسف حجر عثرة دائماً. والتدخّلات السياسية كما التصدي الممنهج لأي خطوة تطويرية تساهم في نهوض الإدارة العامة، حدّث عنها ولا حرج. إذ إن عرقلة تحقيق أوسع تطبيق للعمل الممكنن والرقمي، إتاحة للفرصة أمام الرقابة الآنية للقرارات التنفيذية، إنما تحول دون تدارك وقوع الأزمات وإدارتها استباقياً. ويأتي الحد من صلاحيات التفتيش المركزي وعدم مدّه بالموارد البشرية والمالية والتقنية الكافية ليزيد الطين بلّة. ثم أن غياب تطوير بعض النصوص القانونية المتعلقة بالتنظيم أو بالاختصاصات المطلوبة أو حتى بمكافحة الفساد وتضارب المصالح، كما غياب وحدات تدقيق داخلية في الإدارات العامة، جميعها عوامل لا تساعد هي الأخرى. هذا ناهيك بعدم إلزامية استجابة الإدارات العامة للتوصيات لا سيما لجهة تقديم المبررات. فما السبل لتجاوز هذه العوائق والأفخاخ؟

يلفت عطية إلى أن التفتيش المركزي سبق ووضع خطة استراتيجية للسنوات الخمس المقبلة وفق خمس أولويات: تحديث وتمكين أعمال التفتيش المركزي، تطوير الموارد البشرية، تفعيل العلاقة بين السلطات القضائية والرقابية والجهات الخاضعة للتفتيش، بناء شراكة مع المجتمع وتحسين العلاقات مع السلطات العامة. هذا إضافة إلى التوافق حول الرؤية الإنقاذية التي من شأن منصّة IMPACT أن توفّرها خاصة بعد نجاحها على مدى عامين في تنفيذ برامج وزارية مع مراعاة تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة. ويشير أيضاً إلى مواقف الجهات الدولية والجهات المانحة، وأبرزها البنك الدولي، لناحية الإشادة بالأداء الرقابي الذي تؤمّنه منصّة IMPACT ومساهمتها الأساسية في إنجاح خطة اللقاح الوطني وبرنامج شبكة «دعم» للحماية الاجتماعية.

كل هذا جيّد ومشجّع. لكن تبقى المعضلة الكبرى في السلطة السياسية وتدخّلها على جري العادة بسير العمل. فبدون رفع يد السياسيين ومن يدور في فلكهم نهائياً، سيتواصل تراكم الملفات وعرقلتها. كيف لا ودور المؤسسات الرقابية هو النظر في طبيعة المسائل والمخالفات من دون الالتفات إلى هوية المخالف لأي جهة انتمى.

عن التمويل والآفاق المستقبلية

كسائر الإدارات العامة، يبقى التفتيش المركزي بحاجة من دون أدنى شك إلى أساليب وأدوات تضمن سبل التطوير واستدامتها عبر وضع خطط مستقبلية والسعي إلى إنجازها. يقول عطية: «يتابع الجهاز الرقابي بمفتشيه وإدارييه دورات تدريبية لصقل مهاراتهم في كيفية إجراء التدقيق الداخلي تطبيقاً للمعايير الدولية، وذلك بالتعاون مع Act Project وExpertise France. كما يخضع الجهاز الرقابي لدورات تدريبية تتعلق بتطوير عملية إصدار التقارير إن على صعيد المحتوى أو على صعيد الصور البيانية المرفقة، إضافة إلى دورات خاصة بأمن وحماية البيانات الشخصية». والحال أن الدورات المذكورة بالغة الأهمية لا سيما إذا نُفّذت من ضمن خطة عمل منفصلة عن السياسة وغاياتها. ففي بلد تُفتقَد فيه الثقة بين الدولة والمواطن إلى حد بعيد، لا بد من الإثبات للمواطن، من خلال الأداء التراكمي، أن الإدارات تتعامل مع المسائل التي تعنيه باحتراف معتمدة أساليب حديثة وغير منحازة من العمل الرقابي.

ختاماً، نتطرّق إلى كيفية تأمين التمويل خاصة أن موازنة التفتيش المركزي – وهي تراعي الأجور والرواتب والإيجارات كما الاعتمادات الخاصة بالتجهيزات الفنية والتقنية – ملحوظة ضمن موازنة رئاسة مجلس الوزراء المحدودة أصلاً بحكم الظروف الحالية. بحسب عطية، «الدورات التدريبية يتم تنفيذها إجمالاً بالتعاون والتنسيق بين التفتيش المركزي ومؤسسات من ضمن مشاريع موضوعة مسبقاً». مثلاً، قامت الحكومة البريطانية بتمويل مشروع Governance, Oversight and Accountability in Lebanon – GOAL»». أما الاتحاد الأوروبي، فقد موّل مشروع Act Project عبر France Expertise، في حين أن مشروع تقييم الأداء القطاعي والتنظيمي تمّ تمويله من قِبَل الصندوق الكويتي للتنمية بالتعاون مع وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية.

المصدر
كارين عبد النور - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى