من منبر مهني إلى سوق كرخ: الإعلام بلا ضوابط ولا مهنية

كتب عمر بلح لقلم سياسي،
من منبر مهني إلى سوق كرخ: الإعلام بلا ضوابط ولا مهنية
الإعلام اليوم لم يعد فضاءً مهنيًا متوازنًا، بل تحوّل شيئًا فشيئًا إلى سوق كرخ صاخب، حيث تختلط الأصوات، ويعلو الصوت العالي على المضمون، ويتقدّم من لا يمتّ للمهنة بصلة على حساب من يعمل بضمير ومسؤولية. ومن المهم التأكيد أن الحديث عن من درس الإعلام أو لم يدرسه هو مبحث مختلف تمامًا؛ فهناك كثيرون أثبتوا أنفسهم دون دراسة أكاديمية. المشكلة الحقيقية تكمن في دخول أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام أصلًا؛ لا يملكون أدواته، ولا أخلاقياته، ولا الحد الأدنى من احترام الجمهور، لكنهم يحضرون بثقة زائفة ونبرة استعلائية.
من أبرز الأمثلة على هذا التحوّل علي الرضا “علي برو”، الذي أصبح نموذجًا صارخًا لما يمكن تسميته سوق الكرخ الإعلامي. يظهر برو على المنصات بصوت مرتفع ونبرة هجومية، يشن هجومه الشخصي ويستفز الجميع دون أي اعتبار لأدوات الصحافة أو أخلاقياتها. الفيديوهات الأخيرة له، خصوصًا من أمام صخرة الروشة، أظهرت استهزاءه بالسلطة وسخرية من رئيس الحكومة بطريقة أقرب للاستعراض الشخصي وصناعة الضجة، وليس لممارسة نقد بناء. تصرفاته دفعت النيابة العامة التمييزية للتحرك ضده، بعد تغيّبه المتكرر عن جلسات التحقيق، مكتفيًا بإرسال وكيله القانوني الذي صرّح بأن موكله “إعلامي ويُمثّل أمام محكمة المطبوعات فقط، لا أمام الضابطة العدلية”. الغياب المتكرر دفع القاضي لإصدار بلاغ “بحث وتحّرٍّ” بحقه، ما يطرح تساؤلات حول استخدام المنبر الإعلامي كدرع أمام المحاسبة.
سلوك علي برو مثال صارخ على ما يحصل في سوق الكرخ الإعلامي: صراخ، استفزاز، استعراض شخصي، وتجاوز على القانون الأخلاقي للمهنة. يظهر المنبر كمساحة لإثارة الجدل، لا كأداة للنقد البناء أو التنوير، ويصبح الصوت العالي هو العامل الأهم للظهور، بينما تتراجع المعرفة والتحليل. وسط هذا الواقع، يظل الإعلاميون الحقيقيون الذين يعملون بصمت ويقدّمون محتوى مسؤول في موقع أقل وضوحًا، محاصرين بالفوضى التي تسيطر على المنابر.
إحدى الزوايا الأخرى التي تعكس هذا الانحدار هي البطاقة الصحفية. بينما يفترض أن تكون البطاقة وسيلة تكليف ومسؤولية تمنح حاملها القدرة على الوصول إلى المعلومات وممارسة المهنة ضمن قواعد أخلاقية، أصبح البعض يتعامل معها كـ امتياز استقواء أو وسيلة للتفوق على الآخرين. في سوق الكرخ الإعلامي، تتحوّل البطاقة إلى شعار يُرفع أمام الكاميرا أو أمام المصادر، بدلاً من أن تكون أداة لخدمة الجمهور أو الالتزام بالمهنية. هذا الاستغلال يحوّل الإعلام من رسالة ومسؤولية إلى أداة استعراض وسيطرة، ويعمّق فجوة الثقة بين الجمهور والصحافة.
النتيجة أن الصوت العالي والاستعراض أصبحا أهم من التحليل والمهنية، ويصعب على المشاهد التمييز بين من يمارس الصحافة بضمير وبين من يسعى للشهرة عبر الضجيج فقط. السوق الإعلامي الصاخب يسمح لأي شخص بالظهور والتأثير دون أي معايير واضحة، ويُعطي مكانة لمن يعتمد الجرأة والفوقية، لا المعرفة والمهارة.
وفي ضوء هذا التحوّل، يبرز سؤال مفتوح للجميع:
هل سيستعيد الإعلام مكانته المهنية، أم سيبقى سوق الكرخ يحكمه الصراخ والضجيج، وتُستغل البطاقة الصحفية كوسيلة للهيمنة بدل التكليف والمسؤولية؟



