محليمقالات

من أسس تماسك الأسرة المسلمة

كتب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فضيلة الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي،

يريد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وليست هذه الخيرية بحسب الأعراق والأجناس، وإنما هي خيرية الصفات، والخدمة، والقوة، والعزة، والرحمة؛ ولذلك أولى الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عنايةً قصوى للأسرة، وأراد الله سبحانه وتعالى من خلال آياته أن تكون الأسرة في الإسلام أسرة هادئة، متماسكةً، قويةً، قائمةً على المحبة والمودة، وقائمةً على الاحترام، وعلى الحقوق المتبادلة.

نفسٍ واحدة

لقد وضع الله سبحانه وتعالى لهذه الأسرة عدة مبادئ، من أهمها ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{، هذه الآية الكريمة تتضمن عدة مبادئ أساسية في تهيئة الأعمال، وفي تهيئة الأسرة لتكون أسرة متماسكة، متحابة.

ومن أهم هذه المبادئ هو مبدأ أننا من جنس واحد، رجالاً ونساءً من نفس واحدة، وهي سيدنا آدم عليه السلام وأمنا حواء، إن الله سبحانه وتعالى خلق حواء كما في أكثر الآيات الكريمة من آدم نفسه؛ لتكون جزءًا وبضعة منه، دون انفصال ولا انخفاض، فمحبة الإنسان لجزئه -قلبه وكل أعضائه- يجب أن تسري على زوجته، فهي جزء منه، فالنفس الواحدة أساس التعاون، والنفس الواحدة أساس التماسك، والاعتراف بأننا من جنس واحد، ومن نفس واحدة يقضي على التفاخر، وعلى العصبية الجاهلية التي تسود بيننا مع الأسف الشديد في هذه الأيام.

وليس هناك أفضلية لأحد على الآخر، ففضيلة الرجل وفضيلة المرأة بالأعمال الصالحة، وكون الرجل له بعض الصفات يختلف بها عن المرأة، وكذلك المرأة، فهذه الصفات تكاملية قائمة على فقه التوازن، وليس من باب تفضيل أحدهما على الآخر، ولذلك فإن قوله سبحانه وتعالى: }وَلَيْسَ الذَّكَرُ كالأنثى {يشملهما، فكما أن الذكر ليس كالأنثى، فكذلك الأنثى ليست مثل الذكر، فكل واحد منهما له صفاته التكاملية، وأن الكون والحياة الإنسانية لا تستمر إلا بهذا التكامل، فلو كان كل الناس ذكورًا لانتهى جيلهم وانقرضت البشرية، والعكس صحيح، فهو تكامل وتوازن، فلا ينبغي لأحد أن يفضّل نفسه لأنه ذكر، أو تفضّل نفسها لأنها أنثى.

والقرآن الكريم أراد أن تكون هذه الأمة قائمة على المساواة الحقيقة في هذا المجال، وهي المساواة المتوازنة؛ لأن المساواة المطلقة ليست عدلاً، وإنما المساواة المتوازنة، ففي الحقوق والواجبات يجب أن تكون المساواة، لكن في الوظائف والخصائص هناك فروق، لكنها من قبيل التكامل.

نصفان متكاملان

المبدأ الثاني في قوله تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا{، وكلمة أزواجًا عندما يجتمع شيئان مناصفة فهذا يسمى زوج، ويعني التكامل كما أشرنا إليه في المبدأ الأول، فنصف الزوج زوجة، والنصف الآخر زوج، إذن معنى ذلك أنه لا ينبغي لأحد أن ينظر للآخر بأنه أقل منه شأنًا، أو أقل منه دورًا، فدور الإنسانية قائم على هذه الزوجية.

فإذا كان الأمر كما قررناه آنفًا، فلا بد من التفاهم بين الزوجين وإن وجدت مشاكل، ولا بد من التحمل حتى يصل الأمر إلى هذا التفاهم.

سكن ورحمة

ثم بعد ذلك بيّن الله سبحانه وتعالى مبدأ آخر وهو مبدأ السكن، فالرجل لا يمكن أن يعيش معيشة حقيقية، وعيشة هادفة، وعيشة مستقرة، وعيشة متوازنة، إلا من خلال وجود زوجة يسكن إليها، وكذلك الزوجة.

إذن المصالح المشتركة تقتضي التعامل على أساس هذه المصلحة، على أساس هذا السكن للطرفين، فالزوج محتاج إلى الزوجة، والعكس صحيح، إذن يجب أن يتحمل الطرفان في سبيل هذا السكن، والسكون هو الاستقرار النفسي والأسري، وهذا هو المطلوب، وبدون هذه السكن وهذا الاستقرار تكون هناك فوضى، وتكون هناك مشاكل، وتكون هناك عوامل خطيرة تؤدي إلى تشرد الأطفال، وإلى خطورة المحيط الاجتماعي؛ لأن المجتمع يتكون من الأسر فيتفكك بتفككها وعدم استقرارها، والأسر إذا كانت قوية مستقرة عزيزة متماسكة متحابة ينعكس كل ذلك على المجتمع.

وحتى إذا لم تكن هناك مودة بين الزوجين، فلا بد لهما ألا يتجاوزا مبدأً آخر، وهو مبدأ الرحمة، فديننا دين الرحمة، والله سبحانه وتعالى أوجب علينا الرحمة، وكل الأمور تبدأ باسم الله الرحمن الرحيم، والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ رحمةً للعالمين، إذن فحتى وإن وُجدت مشاكل زوجية فلابد أن يكون كل طرف رحيمًا بالآخر، وهذا مُوجه للأسرة كلها، وليس الزوجين فقط، فالأسرة قائمة على اللين و الرحمة، والخضوع، وليس هناك ذلٌّ مقبول في الإسلام إلا ذلاًّ لله سبحانه وتعالى، وذلاًّ لإخوانك وأخواتك، فهذا ليس من الذل المذموم، وإنما هو من باب الرحمة المطلوبة والتواضع، قال تعالى:}أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ{ أذلّة على المؤمنين، فما بالك داخل الأسرة، فهذا مبدأ أساسي، فإذا وُجدتِ الرحمة فلا يمكن أن يوجد الضرب أو الإيذاء أو يوجد العنف.

إمساك بمعروف

ومن المبادئ الأساسية في هذا المضمار، مبدأ الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهذا المبدأ لا يمكن أن نصل إليه إلا بعد استنفاذ كل وسائل الإصلاح، ومنها: الهجر، والضرب بضوابطه التي قررها الإسلام، وتحكيم حكم من أهلها وحكم من أهله، وكذلك بالرجوع إلى المتخصصين في الجوانب الاجتماعية، وإلى غير ذلك من الأمور التي تساعد على الإصلاح بين الزوجين.

فالطلاق ينبغي أن يكون آخر شيء، والشيطان لا يفرح بشيء كفرحه بطلاق الزوجين كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فلا يجوز كما يحدث الآن التسرع إلى الطلاق، بل والمبالغة فيه والاعتداء، كما يقول بعضهم أنت طالق بالثلاث، أو العشرة، أو المئة…إلخ، فهذه مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويترتب عليها إثم، فهذا التسريح بالإحسان لا يجوز إلا بعد نفاد كل الوسائل، حينما لا تبقى أي حيلة، فحينها كما يقال آخر الدواء الكي .

تشاور وتراضى

المبدأ الآخر داخل الأسرة هو التشاور والتراضي، فقواعد الإسلام تأبى كما يُقال اليوم الدكتاتورية، والتي تقوم على أوامر طرف واحد وهو الزوج فقط أو الزوجة فقط، فهذا خطأ بنص القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يأمر بالتوافق والتراضي والتشاور بين الزوجين، فيقول الله سبحانه وتعالى: }فَإِنْ أَرَادَا{ أي الزوجين }فِصَالًا{ أي فطم الولد عن الرضاعة، فلا يجوز للزوجة أن تقطع الفطام بنفسها دون مشاورة الزوج، وكذلك الزوج لا يجب عليه أن يأمرها بذلك دون رضاها لقوله تعالى: }عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا{، وهاتان الجملتان حسب فقه اللغة من باب مشاركة التفاعل، أي بين الطرفين، على عكس باب المشاركة في المفاعلة، فهذه الآية تدل على أن قوامة الرجل مثل رئيس مجلس الإدارة، ولكن المرأة هي الرئيس التنفيذي إن صح هذا التعبير، فهذان إذا أرادا شيئًا فيجب أن يكون بالتوافق بينهما.

وإذا كان هذا المبدأ مطالبين به في مسألة الرضاعة، فإنه يعم جميع الأمور، كما هو منصوص في كتب الفقه والأصول، فإذا أخذنا بهذا المبدأ الرباني تكون الأسرة قوية متماسكة، تسير وفق مبدأ التشاور، فإذا كان الرجل يأمر فقط والمرأة تطيع أو تعصي الأوامر فحينئذ تحدث الاختلالات والمشاكل.

هذه بعض المبادئى الأساسية التي تجعل الأسرة متماسكة، متراحمة، متفاعلة، متشاورة، متراضية، كما يريدها الإسلام.


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى